تمارين طه عبدالمنعم في الكتابة

وائل سعيد

يصدّر المصري طه عبدالمنعم مجموعته القصصية الأولى «3 تمارين كتابة لميلان كونديرا» (دار روافد) بمقولة إيتالو كالفينو: «طبعاً لن تعثر على الوضع المثالي للقراءة أبداً»، في ما يُشبه الإقرار منه بأن ذلك سينطبق حتماً على الكتابة هي الأخرى، فجاءت غالبية قصص المجموعة مُتماشية مع المقولة ومع عنوان الكتاب؛ كتمارين تبحث عن صورة مُثلي للكتابة، متورطة مع اسم ميلان كونديرا في ما يُشبه الكتابة الذهنية.
والذهنية هنا بمعنى الكتابة عن حالة الكتابة نفسها، أو ما وراء الكتابة، فطوال الوقت نجد الراوي أمامنا هو الكاتب تقريباً كما تدور أحداث قصة «الإذن بالكتابة» حول كاتب شاب في ندوة في إحدى المكتبات يُقابل إمرأة مُسنة من الجمهور تُخبره أن لديها قصة وتريد حكايتها. وفي «مرَّت سنة»، يُخبرنا أنه «نص يشتبك ويتشابك مع نص للشاعر أحمد شافعي». ويعتبر الحكي في المجموعة هو هم الكاتب الأوحد؛ فكل فرد يحمل قصته التي تعبر عن ماهيته في الحياة، وكأن منهج القص يرتبط بالحياة في العموم، كما قال ماركيز في سيرته «أعيش لأحكي». والحكي في بعض الأحيان يتجاوز حدود البشر، فنجد الجماد يتحدث ويروي حكايته في قصة «أنا مكان» التي جاءت في شكل حوار بين مجهول يطرح أسئلة قصيرة ومبتورة وبين هذا المكان غير محدد المعالم. في «لا شيء… ولكن ذلك أفضل»؛ يُعاود الكاتب التأكيد على مقصده عبر قصص المجموعة بأكملها: «أحب الحكي، وعندما يستدعيني ملك الموت سأحكي له. أنا لم أكتب القصص لأن خيالي واسع، بل لأني عشتها، عشت تجاربها بمعنى أدق وأكثر وضوحاً، استكشف حياتي من حكاياتي». التشابك المطروح في معظم قصص المجموعة بين الأنا والآخر؛ الآخر من أول التصادمات الأولى للإنسان مع والديه، مروراً بالصدام مع المفاهيم أو المعتقدات كلما أوغل الفرد في رحلته الحياتية. في النص الأول بعنوان «عني» يضعنا الكاتب في حالة من الغنائية عن النفس، غنائية يواجه بها الآخر في حالة دفاع عن النفس؛ فالأب يرحل بجسده ويترك سطوته على الابن أو بصمته بعد أن قام بتشكيل مفاهيمه في شكل أو آخر «علَّمني أبي أن أفعل ذلك» ثم تستمر ملاحقة الهيمنة في صورة مقولات الآخرين من حول الراوي طوال الوقت… «بعدما ركب القارب منّيتُ نفسي طويلاً أني سأتولى الأمور مكانه، لكن لم تتح لي الفرصة، كانت جملة: كان أبوك يفعل ذلك، تلاحقني».
ويأتي الاتصال بالأم اتصالاً منفصلاً؛ «انفصلتُ عن أمي. دخلَت في غيبوبة، أو من الممكن أن أكون أنا الذي دخل فيها». وما بين الأب الراحل تاركاً سطوته إجبارياً وعلاقة الأم المنفصلة، تتكون ملامح الراوي التائه في الحياة؛ «تلك الأرض التي لا تخص أحداً»، مُتسلحاً فقط بالكتابة. ولأن الكتابة هي الملاذ الوحيد في مواجهة الحياة كي لا يولد المرء ويعيش ويموت بلا معنى؛ نجد شخصية «نجاة» في قصة «طائر تبدو عليه ملامح القداسة»، نموذجاً آخر لهذا السجال، الكاتبة المُنتحرة التي كانت تكتب القصة والشعر والرواية فقط لتحيا بها حيث الكتابة منهج حياة؛ «ربما لهذا طريقة واحدة وهي الكتابة، الكتابة هي المرأة المقدسة التي تكشف كل شيء، حين نشرع في الكتابة نطل على كل شيء، فنرى من دون عيوننا، ونلمس من دون أصابعنا، ونشم من دون أنوفنا». في النهاية لا شك من التسليم بحقيقة أننا حين نكتب يكون الآخر نصب أعيننا في شكل ما، حتى هذا الآخر أثناء فعل كتابته سينظر بالتالي لآخر؛ من أجل ذلك كان ميلان كونديرا في عنوان المجموعة وتم استدعاء روحه عبر قصصها. في القصة التي تحمل عنوان المجموعة ومقصدها في الوقت نفسه، نجد قرداً يطرق باب الراوي ويُخبره بأن اسمه ميلان كونديرا، يستقبله الراوي وهو واقف فوق سطح بناية صامدة بلا مبرر، وعبر مجموعة من الأحداث الفانتازية سنكتشف مع الراوي أن موضوع القصة هو الكتابة نفسها؛ حيث البناية الصامدة بلا مبرر هي المفاهيم القديمة والقوالب الجامدة وهي الكتابة الآمنة التي ترتكز على المعتاد والمتعارف عليه من دون تجريب.
هذا التجريب المحفوف دائماً بالخوف من الفشل؛ «نصف حالات الفشل في العالم جاء من بشرٍ كانوا يؤمنون حقاً بقدرتهم على تحريك الماء الآسن بقذفة حجر». فعندما يجد الراوي نفسه واقفاً في العراء، تمتد يد القرد ليطير به داخل عوالم غريبة كعوالم حرب النجوم وأليس في بلاد العجائب. وبينما يسترجع الراوي تجربته الحسية الأولى مع زميلته في الفصل التي حدثت من وراء حجاب، يُفاجأ بطريقة القرد الفاعلة والصريحة مع أمه.
ليست هذه التجربة في الحالتين سوى فعل الكتابة؛ في الوقت الذي نتعامل معها وفق ثقافتنا وما تربينا عليه من وراء حجاب من دون تجريب وخوفاً من أي جديد، يتجاوز الآخر كل السقوف والحدود للحد الذي يُسقط أي مقدس أو ثابت، فالفن في حاجة ماسة للجنون أحياناً والانفلات من كل الحدود والأسوار. هكذا حاول طه عبدالمنعم في مجموعته الأولى؛ قذف حجر لتحريك الماء الآسن، وقد فعل.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى