القراءة الآثمة

سعيد يقطين

تتعدد أنواع قراءة الرواية وتتنوع بحسب تعدد أصناف القراء وطبقاتهم. فقد يكتفي أي منهم بتناول جزء من الرواية، وفق تصور محدد ينطلق منه، أو قد يعالجها وفق طريقة من الطرق الكلية المتعارف عليها في تلقي الرواية. لا أحد ينكر أهمية أي قراءة ما دامت تتأسس على فهم دقيق للبعد الأدبي التخييلي الذي يتحقق في الرواية، أيا كان المنهج الذي ينطلق منه القارئ في تناوله لها. لكن مشروعية أي قراءة تكمن فيما يمكن أن تضيفه إلى الرواية باعتبارها محفزا للخيال والتواصل الفني والموضوعي، والارتقاء بالذوق الفني إلى درجات عليا.
لكن هناك نوعا من القراءات لا تتحقق فيها هذه المشروعية، لأنها تختزل الرواية إلى ما تريد ذات القارئ تأكيده فيها لغايات ومقاصد لا علاقة لها بالإبداع الفني. وأرى أن بعض الدراسات الأيديولوجية والاجتماعية والنفسية التي لا تنطلق من تمثل نظري ومنهجي للأثر الروائي من هذا النوع من القراءات. إنها تقوم بعملية إسقاط لا مبرر له على الرواية، انطلاقا من رؤية ذاتية لا تراعي خصوصية العمل الأدبي، وتستأنس بالدراسات الاجتماعية لتأكيد نزوعها الذاتي. ولهذا السبب جاءت البنيوية لتتجاوز هذا النوع من القراءات التي لا تتلاءم مع طبيعة الرواية ووظيفتها.
إذا كانت القراءات التي تستند إلى العلوم الاجتماعية والإنسانية عاجزة عن تحقيق قراءة ملائمة للرواية، فإن هناك نوعا آخر من القراءة لا يختلف عنها إلا في كون أصحابها لا يقدمون على إنجاز قراءة مكتوبة، ولكنهم يتكلفون تحميل الرواية ما لا تحتمل بناء على تصور جاهز يحملونه عن الكاتب، أو عن موضوعها، فيصدرون بصددها أحكاما جائرة ومغلوطة. أسمي هذه القراءة بـ»القراءة الآثمة» لأنها تعبير عن إثم يرتكبه أصحابها في حق أنفسهم أولا، لأنهم يعبرون عن سوء الفهم، وثانيا لأنهم يسقطون إثمهم على الرواية ويحملون كاتبها مسؤولية آثام تعبر عما تختزنه ذواتهم عن الأدب والواقع عموما، والرواية خصوصا.
لا تقف القراءات الآثمة عند حد اتخاذ موقف مما تراه لا ينسجم مع رؤيتها للأشياء، ولكنها تتعداه إلى درجة الاستعداء على النص أو على صاحبه أيضا. ويمكن التمثيل لذلك، باتخاذ قرار محاكمة «ألف ليلة وليلة» في مصر؟ وبمنع بعض الروايات من التداول، فقط لأن هناك من رأى فيها «خطرا» على المجتمع. لكن سرعان، مع الزمن، ما تتحول الرؤية، فتعود تلك الأعمال إلى سابق عهدها، فيتم تداولها والبحث فيها، لكن وصمة المنع أو المحاكمة التي وقعت لها تظل دالة على الآثام التي ارتكبها مروجوها في زمن ما.
ما وقع للكاتب عزيز بنحدوش على إثر صدور روايته «جزيرة الذكور»، يعيد إلى الأذهان صورة القراءة الآثمة. لقد تعرض لاعتداء جسدي، وأدانته المحكمة بورزازات، جنوب المغرب، بشهرين سجنا موقوف التنفيذ، وغرامة مالية قدرها عشرون ألف درهم، حسبما تداولت ذلك وسائل الإعلام، ووسائط التواصل الاجتماعي. وذلك بتهم تتعلق بالسب والقذف بناء على شكاية تقدم بها أشخاص يتهمونه فيها بالإساءة إليهم.
حين يكتب الكاتب فهو يعبر عن واقع اجتماعي وعن موقفه من هذا الواقع. ومهما كانت درجة «واقعيته» في تناول القضايا الاجتماعية فإنها تظل عملا تخييليا يجب التعامل معه على هذا الأساس. ولذلك نجد من بين «قواعد» الرواية التي يعبر عنها الكتاب في مختلف أرجاء العالم، ما يصدرون به رواياتهم عادة، بتأكيد أن شخصيات الرواية وأحداثها خيالية، وإذا حصل تطابق مع الواقع فهو مجرد صدفة. هذا التصريح يعطي للعمل الروائي قيمة تتعدى الأشخاص والأحداث لأنها متعالية على الزمان والمكان. ولهذا السبب نجدنا، ونحن نتفاعل مع رواية من أمريكا اللاتينية، أو في غيرها، وكأنها تعبر عن القرية المغربية الصغيرة التي نعيش فيها، وهنا تكمن القيمة الخاصة للرواية. أما قراءة الرواية على أنها موجهة ضد شخص محدد، أو أنها تعني أشخاصا بأعينهم فهذا هو مكمن القراءة الآثمة. وليست هذه القراءة سوى تعبير عن سوء فهم وتقدير للأدب وللإبداع. ولو كان من رأى نفسه معنيا في الرواية ذا وعي روائي، لما وصل إلى حد الاعتداء على الكاتب، أو تعريضه للمحاكمة.
لو أنجز مخرج فيلما وثائقيا عن الظاهرة التي ركز عليها الكاتب في روايته، وضمن الفيلم مقاطع تمثيلية عنها، فهل ستكون الشخصيات هي نفسها في الواقع؟ وإذا ما عرض هذا الفيلم عالميا، فهل ستكون رسالته إدانة لأشخاص بعينهم؟ أم محاكمة الظاهرة أينما كانت؟ في العمل الروائي تغدو الظواهر والأحداث والشخصيات مهما كانت درجة واقعيتها، أو حقيقتها، متعالية عن الواقع، لأنها تصبح إنسانية متى نجح الكاتب في التعبير عنها بلغة فنية وجمالية. وهنا مكمن خصوصية الإبداع الروائي خاصة. أما القراءة الآثمة فليست سوى تعبير عن تجنّ، وقصور في فهم الأدب والواقع.
الكاتب مثقف يحمل رؤية عن الواقع، وبذلك فهو مسؤول عن كتابته. ولا يمكنه إنجاز عمله الإبداعي إلا وهو مدرك لطبيعته الجمالية، ووظيفته الإدراكية. وأولى الناس بـ»محاكمته» هو قارئ الأدب، لا القاضي، أو القارئ الآثم.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى