«مشردون» أرخوا ظلالهم على الأدب والفن

انطوان جوكي

عام 1958، وضع جاك كيرواك رواية بعنوان «المتشرّدون السماويون» سرد فيها حياة رفاقه في «جيل البيت» (غينسبرغ، كاسادي وسنايدر). ولا شك في أن هذا العمل هو الذي أوحى للشاعر الفرنسي توما فينو بكتابه الصادر حديثاً عن دار «كاستور أسترال»، ويتضمن بورتريهات شعرية مقتضبة ودقيقة لـ «ستة وسبعين متشرّداً سماوياً»، بعضهم معروف، والبعض الآخر بالكاد سمعنا به أو مجهول كلياً.
ما يجمع هذه الشخصيات الفريدة هو اختبارها قدراً يخرج عن المألوف، وقدرة الأعمال الشعرية أو الفنية التي استخلصتها من تجربتها الحياتية على مداواة نفوسنا من السطحية والرتابة والرداءة التي تميّز زمننا الراهن. تجمعها أيضاً عزلةٌ رفعتها كراية، وميلٌ لا حدود له إلى التسكّع، وتمرّدٌ لا هوادة فيه على الوضع القائم وعلى السلوك المقولب سلفاً على يد المجتمع، وخصوصاً إدمانٌ على النشوة في كل تجلياتها. باختصار، شخصيات شيّدت بوقوعها صرحاً من جمال صاف لا يهاب أي واقعٍ، مهما كان أسود، ولا تقوى عليه كل صغارات الدنيا.
من المتشرّدين المعروفين، يستحضر فينو الفنان فرانسيس بايكون، «الذئب الأحمر الذي كان دوماً جاهزاً لليّ القمر» و«علك الليل بأسنانه» و»شرب ضباب لندن بكامله» حتى الثمالة، وعازف البوق شيت بايكر الذي «لم يعثر أبداً على الغيمة التي سقط منها»، فـ «عزف الألم العاري، وغنّى كي لا يبكي»، قبل أن يموت في الطريق قرب بوقه الذي «يسيل فيه دمٌ طفولي»، وريتشارد بروتيغان، «ملك «جيل البيت» وما سبقه وما أتى بعده»، و«سرّ الأدب الأميركي المحفوظ بعناية»، و«الشاعر الذي كان يزرع قصائده كخضروات»، قبل أن يُعثر عليه مقتولاً برصاصة في رأسه.
يستحضر فينو أيضاً شارل بوكوسكي «الكلب الذي التهم عصفوراً أزرق في الجحيم» و»لم ينتمِ لا إلى «جيل البيت» ولا إلى غيره»، و»بعدما عرف الشهرة والثراء، بقي صريحاً مثل بصقة»، ونيل كاسادي «الذي أحرق حياته كدولاب سيارة على طريقٍ جبلية»، و»جعل من جلده رواية مغامرات مرتجلة في الليل»، و»تمكّن من ابتكار العالم الحديث من دون أن يرفع قفاه عن فرشته الملوّثة».
هنالك أيضاً بليز ساندرار الذي «أنجز كل شيء قبل الآخرين» و»كشف أفريقيا للسورّياليين، وفرنسا لهنري ميلر»، و»كان صديق جميع الرسامين والمجانين والمساجين وبائعات الهوى والمتشرّدين». وألبير قصيري الذي «مارس الكسل كفنّ قتال – فن التأمّل الثائر – وبقي حتى النهاية من جهة سخرية الحياة ووقاحة الشحاذين». وأرتور كرافان، الشاعر الملاكم والراقص الفوضوي الذي صرخ إلى طيور السماء: «تغوّطي عليّ/ لأنني بشع/ مثل إنسان»، و»ما زالت الرياح تردد ضحكته الفجّة» على رغم تواريه بعيداً، في خليج المكسيك.
ولم ينس فينو الفيلسوف الإغريقي ديوجين، «المتشرّد السماوي الأول، وصديق الكلاب، الذي كان يحوّل كل برهنة أفلاطونية إلى موضوع للسخرية»، و«أراد أن تُرمى جثّته في المجارير» بعد وفاته. ديوجين الذي قال الإسكندر المقدوني له يوماً: «اطلب مني ما تريد وسأعطيك إياه»، فأجابه: «اغرب عن سمائي». لم ينس أيضاً والت ويتمان وروبرت ستيفينسون وروجيه جيلبير لوكونت وروبر فالسر وجاك لندن وجو غولد وكوباياشي إيسا وبيلي هوليداي وهاري مارتينسون.
لكن أهمية كتاب فينو لا تكمن في بورتريهات المتشردين الشهيرين بقدر ما تكمن في تلك التي يخطّها للمتشرّدين المجهولين وتثير فضولنا إلى حد تجعلنا نرغب في معرفة المزيد عنهم وتحثّنا على البحث فوراً عن آثارهم. ومن هؤلاء نذكر الموسيقار الأميركي إيدن أهبز الذي «نظر إلى الريح والمطر باعتبارهما زميلَيّ عمل»، وبقي ينام في الشارع حتى بعدما ألّف أغنيات لأبرز وجوه الجاز، وتوفي عام 1995 وهو يلعن سائق السيارة التي هرسته»؛ ومواطنه جاك بلاك الذي «تعلّم كل شيء في السجون وأمضى نصف حياته في زنزانة والنصف الآخر على الطرقات»، وفي النهاية «استبدل مسدسه بقلم وخطّ مقالات وكتباً كبرى للدفاع عن الآخرين، قبل أن يموت غرقاً في مرفأ نيويورك على يد لص حاول سرقة ساعته».
نذكر أيضاً الفرنسي نيكولا بوفييه الذي «استعان بحذائه للكتابة وبالندى حبراً لنصوصه»، وكتب: «السفر مثل غرق، ومن لم تغرق سفينته لن يعرف شيئاً عن البحر»؛ والأميركية كارن دالتون التي «كانت العواصف تتعاشق، حين تغني، والليل يتعرّى، والأجراف تذرف الدموع»، وتوفيت قرب وودستوك وحيدة ومنسية بعدما فتنت بصوتها بوب ديلان وفريد نيل وتيم هاردن وكثيرين غيرهم؛ والنمساوي أرنست هِربِك الذي «شخّص الطبيب حالة فصام لديه وهو في سن العشرين فرُمي في مصح الأمراض العقلية، ثم أُخرِج للخدمة في الجيش أثناء الحرب العالمية الثانية، ليعود إلى المصح، عند نهاية الحرب، حيث بقي حتى وفاته، تاركاً خلفه آلاف النصوص المقتضبة والقاطعة التي تغوص كمسامير في قناعاتنا».
وإذ يتعذّر هنا ذكر جميع «المتشرّدين السماويين» الذين يحضرون في كتاب فينو، نتوقف عند اسمين أخيرين: الفرنسي جورج إيفيرنو الذي «كان دائماً في المكان الخطأ في اللحظة الخطأ، الأمر الذي منحه وجهة نظر ثمينة حول مهزلة أن نعيش حياة إنسان»، و»كل الحرية لمراقبة عصير البشر الأسود الذي يطوف عند كل مناسبة». والأميركي الشاب ألكسندر سوبرترامب الذي لا شك في عدم مطالعته نصوص إيفيرنو التي تبدد لدى قارئها أي قناعة بحرّيته، وإلا لما غادر عائلته في سن العشرين وانطلق في تجوال داخل بلده بهدف «شرب عصير الحياة الحقيقي مباشرةً من حلمة العالم». ومع أنه مات جوعاً بعد أربع سنوات فقط، لكن «لا أحد يستطيع أن يقول إنه لم يتمكن من بلوغ هدفه».
يبقى أن نشير إلى مهارة فينو الفريدة في خط هذه البورتريهات التي تتجلى فيها مقاربات مختلفة تتراوح بين وصف وحوار خيالي وقصيدة ورسالة مفتوحة، وتأتي على شكل منمنمات مرسومة بدقة صائبة، حيث الكلمات تعرّي والجُمَل تسطّر وتنير. ولعل أفضل وصف لها هو ما كتبه الشاعر بنفسه عن أحد المتشرّدين السماويين: «مشحوذة ومسنّنة، كلماته هي كل ما يقاوم التزييف والتفاهة».

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى