قريش قبل الإسلام … إسقاط النزعة اللاتاريخية

ريتا فرج

استأثرت قريش باهتمام الباحثين وتطور التدوين عنها في بدايات العصر العباسي، من الربع الأخير للقرن الثاني عشر إلى النصف الأول من القرن الثالث للهجرة/ الثامن – التاسع للميلاد. ووضعت في هذه الحقبة التاريخية مؤلفات عدة، اكتسبت طابعاً تقديسياً، وارتبط ازدهارها في أن قريشاً هي قبيلة الخلفاء وبني هاشم هم أسرة العائلة الحاكمة.
عرفت الأكاديمية والباحثة التونسية سلوى بالحاج صالح- العايب بأنها من أول وأبرز الباحثين العرب الذين درسوا المسيحية العربية، وقد نشرت ثلاثة مؤلفات في هذا المضمار: «قبيلة تغلب المسيحية»، «جذور المسيحية العربية»، «المسيحية العربية وتطوراتها: من نشأتها إلى القرن الرابع هجري/ العاشر ميلادي»، إلى ذلك تناولت «أرمينية المسيحية من خلال المصادر العربية من 652 إلى 750 م»، ولاقى «دثريني يا خديجة: دراسة تحليلية لشخصية خديجة بنت خويلد» صدى واسعاً في الأوساط الثقافية المعنية بهذا الحقل المعرفي.
في «قريش: وقائع وأحداث قبل الإسلام» (دار الطليعة، بيروت، الطبعة الأولى، 2016) تهدف سلوى بالحاج صالح- العايب إلى دراسة وضع قريش بعيداً من النزعة اللاتاريخية التي تمثلها لأنها منبت الدين الإسلامي؛ فالتاريخ –كما تلاحظ- وقائع وأحداث، تتشابك ويتفاعل بعضها مع بعض ليتشكل منها الواقع في حركته الدائبة. إن مجموع الأبحاث المنشورة في الكتاب نُشر بعضها في إطار مخبر «العالم العربي الإسلامي الوسيط» (كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في تونس، 1999) وبعضها الآخر لم يُنشر؛ أما الأبحاث غير المنشورة فهي: استقرار قريش في مكة، أحلاف قريش من خلال كتاب المنمّق لمحمد ابن حبيب، مثالب قريش في «مثالب العرب» لابن الكلبي، و «المنمّق في أخبار قريش» لابن حبيب، «ذوات الرايات الحمراء ومن ولدن». أما الأبحاث المنشورة فهي: «منافرات قريش نموذجاً للمقاضاة القديمة»، «دار الندوة في مكة في ظل السيادة القرشية قبل الإسلام»، «قراءة في مفهوم الشرف عند قريش قبل الإسلام».
يستند الكتاب إلى مصدرين أساسيين: الأول، «مثالب العرب» لابن الكلبي والثاني، «المنمّق» لابن حبيب، لأهميتهما من الناحيتين الأنثروبولوجية والتاريخية. تعود أهمية هشام بن الكلبي –كما تفسر الكاتبة- إلى علمه بالأنساب، فهو «أعلم الناس بعلم الأنساب»، كما قال ابن خلكان، وكذلك بسبب روايته للمثالب وعلمه بأيام العرب وأخبارها(…) وكان ابن الكلبي مصدراً لأغلب المؤلفين من بعده في النسب والمثالب وتراجم الرجال والأمثال والأصنام». تشير صالح – العايب إلى أن بعض الدراسات ربطت كتابة ابن كلبي لمثالب العرب بالعداء السياسي بين العباسيين والأمويين (…) ويتبيّن من خلال محاور اهتمام هذا الأدب أن له علاقة بالأنساب وعلم الجرح والتعديل في دراسة الرجال ونقد قوائم الأنساب» ويظهر ذلك «جلياً من عناوين فصول كتاب مثالب العرب لابن الكلبي مثل: «باب تسمية ذوات الرايات وأمهاتهن ومن ولدن»، وباب «أولاد الزنا الذين شرفوا من العرب»، و «باب أبناء اليهوديات» وباب «المنجبون في الحمق» و «باب الأدعياء». أما كتاب «المنمّق» لابن حبيب فإنه من أكثر المصادر أهمية لمعرفة قريش (…) ويختلف عن كتب التاريخ العام التي تعرضت لقريش في سياق تطرقها لظهور الإسلام ولشخصية محمد المبشر به. كما أنه لم يطرق جانباً محدداً من حياة قريش بل حاول تقديم كمٍّ من الأخبار التي تهم مختلف أوجه تلك الحياة الاجتماعية والدينية والثقافية».
ارتبط معنى قريش– كما يورد ابن حبيب- بقُصي الذي جمع الأصرام (جمع الصِرم وهو جماعة من الناس ليسوا بكثير) المتفرقين في كنانة، ودخل بهم مكة فسمّوا قريشاً؛ والتقرّش: التجمع. تتوقف الكاتبة عند أمرين مهمين الأمر: الأول، ما قاله ابن حبيب بكل وضوح بأن التقرّش هو التجمع وحينئذ تصبح قريش تعني التجمع. والأمر الثاني، وجود سيد جامع للأصرام (…) فهل هي فعلاً من كنانة كما جاء في المرويات العربية الإسلامية؟ أم جماعات من قبائل عربية أخرى؟ أم جماعات عربية هاجرت إلى مكة من بقاع بعيدة؟ تميل صالح- العايب إلى الفرضية الثالثة وتحاجج استناداً إلى ما لمسته من رواية قدوم رزاح بن ربيعة العذري، أخي قُصي لجهة الأم، من الشام ليساعده في حربه على خزاعة. تقول الرواية إن قُصياً سعى بعد موت أخيه زهرة، إلى جمع قومه بني النضر ببطن مكة وهو ما أثار عليه خزاعة التي كانت تتحكم في الحرم وبكر وصوفة فاستنجد بأخيه من أمه رزاح بن ربيعة العذري فأتاه من الشام بجيش في موسم الحج ونصره وساعده في التغلب على خصومه من دون حرب، فأدخل قُصي معظم بطون قريش البطح وأصبح سيد مكة». ما تخلص إليه الكاتبة من هذه الرواية هو «تنقل أو هجرة عربية من الشمال إلى الجنوب» وهو تنقل نادر في تاريخ تنقلات العرب التي كانت غالباً من الجنوب إلى الشمال».
في دراستها لدار الندوة في مكة في ظل السيادة القرشية قبل الإسلام، وخلافاً لما يجمع عليه الدارسون من المستشرقين والباحثين العرب ومن بينهم مونتغمري واط الذي اعتبرها مجلس شيوخ يشبه «إكليزيا أثنيا» [مجلس الشعب لدولة أثينا]، أما باريه فقد اعتبرها في الموسوعة الإسلامية «مجلساً بلدياً»، في حين رأى فيها جواد علي «مجلساً يُشبه المجالس التي كانت في مدن اليونان»، وهي عند حسين مروة «البذرة الجنينة للدولة» العربية في مكة، وفي المعنى نفسه يقول إبراهيم بيضون إن دار الندوة كانت تعتبر نواة السلطة السياسية في مكة التي تمثل حكم الأوليغارشيا (أي الأقلية) المكية» (راجع: ص 31). وتخلص الكاتبة – بالعودة إلى مجموع الروايات الواردة في بعض المصادر- إلى «أننا لسنا أمام مؤسسة جماعية فوق قبلية بل إننا أمام سلطة فردية لسيد قريش. مما استنتجته من رواية لابن اسحاق «أنه على عكس ما ذكر واط لم يكن تمثيل العائلات محصوراً في شخص واحد. فقد كان حضور العائلات متبايناً يتراوح بين ممثل واحد وثلاثة ممثلين من دون أن يخضع هذا الحضور لشروط بيّنة تهم الولد أو المال، وفي اعتقادنا فإن التمثيلية ليست لها قيمة مهمة ما دامت دار الندوة مؤسسة استشارية وما دامت أيضاً المواقف تتخذ فيها بالإجماع» (راجع: ص 35 – 37).
يذكر ابن حبيب تسعة وعشرين حلفاً عقدتها قريش قبل الإسلام. أقدم حلف عقدته – بحسب الروايات الواردة في «المنمّق» – هو حلف قريش الأحابيش، وهو يعود إلى عهد عبد مناف بن قصي وهو الجد الثالث لمحمد، أي بعد استقرار قريش بمكة وسيادتها عليها. أما الحلف الأخير فهو حلف الفضول– يذهب ابن حبيب إلى تقديم أكثر من تفسير حول أسباب التسمية فيقول: إنه سمي حلف الفضول لأنه حلف خرج من حلف المطيبين والأحلاف فكان فضلاً بينهما عليهما. كما يقول إنه سُمي كذلك لأن قريشاً لما سمعت بما تحالفوا عليه قالوا وهذه والله الفضول (راجع ص 59) – الذي عُقد بين بطون من قريش خمس سنوات قبل البعثة. (راجع: ص 46). تتطرق الكاتبة إلى مراسم عقد الأحلاف وطقوسها وتلفت إلى عناصر عدة تمثل أركاناً للحلف وهي: سائل تغمس فيه الأيدي والطواف حول الكعبة والقسم والطعام وفي بعض الأحيان الكَتْب وإشهار الحلف لعامة الناس. وتعقيباً على طقس إعداد الطعام عند عقد الحلف تعتبر أنه لا يمثل مظهراً احتفالياً فقط بل يرتبط بعادة من أهم عوائد قريش والقبائل العربية، وتتمثل في وفاء من تناولوا الملح والماء معاً لبعضهم بعضاً».
بعد تحليلها لخمسة مصادر («جمهرة النسب» لابن الكلبي، «نسب قريش» لمصعب الزبيري، «المحبّر» و «المنمّق» لابن حبيب، «أنساب الأشراف» للبلاذري)، حيث تباينت آراء المؤرخين في شأن المفاهيم المعتمدة للشرف والأشراف في قبيلة قريش، تخرج الكاتبة بجملة من النتائج، أهمها: أولاً، لم تجزم المصادر مفهوماً محدداً للشرف، فهو يختلف من مصدر إلى آخر. فالشريف في «جمهرة النسب» يطلق أساساً على «الحَكَم» والشريف عند ابن حبيب مرادف لصاحب الرياسة ويترواح الشرف عند البلاذري بين هذين المفهومين. ثانياً، إن النسب الرفيع والمال لا يمثلان (…) عاملين حاسمين في تحديد الشرف. ثالثاً، إن الشرف قبل الإسلام كان صفة متحركة تطلق في أكثر من وضع لا مفهوماً ثابتاً. في «منافرات قريش» تعالج صالح – العايب هذه الظاهرة: أطرافها وأسبابها وقواعدها ونتائجها وتعامل المتنافرين؛ «ولئن كان محور المنافرات هو المفاخرة، فإن الأسباب الداعية إليها تتنوع، فقد يكون المنطلق كلاماً دار في القبيلة حول من أكرم مِمَّنْ (هاشم أم أمية). وترتكز قواعد المنافرة على عنصرين: الاتفاق حول النفارة، قد تكون مادية أو معنوية؛ والاتفاق على حكم يقبله الطرفان وعموماً يكون هذا الحَكَم كاهناً محايداً.
تضمن «مثالب العرب» لابن الكلبي والمنمّق في أخبار قريش» لابن حبيب بعض المظاهر الخُلُقية والخَلقية المذمومة في قريش وبعض السلوكيات الانحرافية والكذب والتخنث. هذه المظاهر – كما تشير الكاتبة- يندر الحديث عنها بمثل هذين الشمول والجرأة في المصادر الإسلامية الأخرى التي حاولت تقديم قريش «قبيلة الله» التي بُعث منها محمد، بمظهر القبيلة المقدسة.
لعل الفصل الأخير «ذوات الرايات الحمراء ومن ولدن» من أكثر الفصول إثارة للجدل، وقد خصّ ابن الكلبي «ذوات الرايات» بباب مستقل في كتابه «مثالب العرب»، الذي نقل فيه عن ابن هشام الآتي: «حدثني أبو السائب المخزومي عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب أنه قال: نكاح قريش في الجاهلية على أربعة أوجه: كما حكم الله في المهور والبينات، ونكاح آخر كانت المرأة من قريش تصيبها العاهة فيأتي الرجل فتستطرقه نفسه، فيعرف نفسه وولده. ونكاح آخر كان الرجل يثب على أمة قوم فتلد له، فأما أن تمنّ عليه، وإما أن تفادى. ونكاح آخر يجتمعون عند المرأة من ذوات الرايات فتحمل فإذا حضر ولادها حكموها في الولد، فمن ألحقته الولد لحقه ووصله». تستدل الكاتبة من هذه الرواية على أن ممارسة ذوات الرايات كانت أمراً مشروعاً أو شرعياً ونمطاً من أنماط الزواج القديمة عند العرب قبل الإسلام (ص 121). ومن الخلاصات الأخرى الدالة، وجود دلالات وقرائن على عبادة آلهة الحب والخصب والجنس عند العرب القدامى ومنها «بغاء» الذي كان يُعبد، وكان صنماً لقبائل عاد المندثرة، يعبدونه ضمن ثالوث مقدس يدعى: «صمود وصداء وبغاء» (ص128)، ومن بينها أيضاً عبادة اللات «الزهرة السماوية» إلهة الخصب والحب، «سواع» بصفتها إلهة الجنس؛ والسواع عن العرب هو «المذي» الذي يسبق المني. أما ودّ فهو إله الودّ والحب. (ص 129-130).
اعتمدت سلوى بالحاج صالح – العايب منهجاً تأريخياً استقرائياً، قامت بقراءة المصادر عبر مناهج التمحيص والتدقيق والتعقيب وإعادة البناء في سبيل الخروج بنتائج مغايرة عن المدونات التاريخية والكتابات التقليدية التي نحت إلى تقديس قريش، فنجحت في انتزاع النزعة اللاتاريخية عنها.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى