بورتريهات المغربي رشيد عاقل: اللعب بالضوء والظل

عز الدين بوركة

يُقال إن فن البورتريه هو سليل الجوكاندا، إذ يرجح المؤرخون ميلاد هذا الفن إلى زمن بداية النهضة، خاصة مع تلك اللوحة الشهيرة لدافينشي، إلا أن الأحافير والأبحاث الأنثروبولوجية تؤكد أن لهذا الفن تاريخ ضارب في القدم، إذ يرجع ظهوره مع إنسان الكهف وما رسمه على جدران الكهوف، بينما نحت الإنسان لآلهته رؤوسا (بورتريهات) يعبدها (تمثال نفرتيتي مثالا).
يندرج فن البورتريه ضمن المدرسة الواقعية، هذه الأخيرة التي جعلت للجسد مكانة عليا ومهمة، بل نحت به إلى التسامي في أعلى درجاته. وفي المغرب، ومنذ مدة ليست ببعيدة، ظهر على السطح حوار بارز ومهم حول الجسد باعتباره مكونا ثقافيا، هذا الحوار الذي سينتج عنه حراك مهم داخل المجتمع المغربي الذي يتخبّط بين المحافظة والتحرر. الجسد الذي يحضر في المعتقد الديني كشيء يمنع الإظهار أو تعريته، سيخلق وسط المحيط الفني المغربي سجالا عميقا، بين منتصر ومنتكس، مما سيجعل الفنانين المغاربة يعالجون مواضيعه بأشكال مختلفة. يأتي فن البورتريه جزء مهما من بينها. فنانون ليسوا كثرا ولا قلة هم الذين اهتموا بهذه المدرسة الفنية وتألقوا فيها، رشيد عاقل أحدهم، هذا الفنان الذي اتخذ هذا التيار وسيلة لتشكيل شخوصه وعوالمه التي تنبعث من هواجسه وأحاسيسه ودواخله.
إن فن الرسم عند رشيد عاقل ليس تمثيلا لشيء محدد، مضبوط، بل ما هو إلا سيرورة متراصة لقصص تتراكم فيما بينها مشكلة أقصوصة أكبر تتزايد شخوصها ومحكياتها وأحداثها التي تتكثف داخل حيز القماشة. شخصيات رشيد عاقل أو بروتريهات مكبّرة تحتل المساحة الأكبر للوحة لديه، تتنوع من وجوه ذكورية وأنثوية، قد تتشابه أحيانا، تتوسطها رموز تعبيرية تحيل إلى الأحاسيس الدخلانية للكائن، وما يفرق بينها سوى اللون، واللعب الباهر بالضوء والظل، هذا اللعب الذي لا يفارق الأعمال كلّها عند هذا الفنان، ويحضر داخل المنجز عند هذا التشكيلي تعبيرا عن تلك الثنائية الأبدية المطاردة للكائن، ألا وهي الخير والشر.
الخير والشر عنوان لأشياء عدة، بل إنه أساس الأساطير الكثيرة وجل الديانات في العالم. فمنذ الأزل والإنسان يطارده السؤال الأخلاقي حول فعل الشر وفعل الخير، وما هو إلا بحث عن إجابة حول وجوده والغاية منه، بل إنه سؤال ظل عصيا على الإجابة لحد الوقت هذا، رغم ما ترتب عنه من قيام حضارات إنسانية عدة.
عودة إلى الرسم لدى رشيد عاقل، يحق لنا أن نتساءل كما تساءل سابقا جيل دولوز ذات يوم وهو يتحدث عن فن الرسم عند بيكن، هل يرسم رشيد وجوها أم رؤوسا؟ إنه – وكما يحق لنا تأكيد ذلك – يرسم رؤوسا، كما ذهب دولوز متحدثا عن رسومات بيكن، فرشيد عاقل يجعل من الجزء الأسمى في النصف الأفلاطوني للإنسان همه وشغله الشاغل، كأني به الفنان والحالة هذه، يحاول أن يضعنا أمام تساؤلات تطرحها تلك الوجوه التي يَحِيكُها بألوانه المتباينة بين القتامة والضوء، وجوه بملامح باهتة وخافتة، بل إنها تتقارب لتشابه في بعضها خطوط محيا وجهه، كأنه يعيد تشكيل نفسه أمام مرآة اللون.
هذا ما يجعلنا نصرح بأن ما يقوم به رشيد عاقل من رسم ما هو إلا إعادة تركيب الذات وتشكيلها، عبر مرآة نفسه. إنه بهذا يعيد رسم ذاته عبر استحضار متسائل يقارب أن يصير سيمولاكرَ ذاتيا داخل كهف خاص ومتفرد بالفنان. والسيمولاكر هنا إن كان يعني تلك الشخوص المشوهة عن عالم المثل، فهذا ما يبتغيه رشيد عاقل وهو يتخذ من أساليب فن الـ»شبه – واقعي» منطلقا له، يعالج به شخوصه، عبر التلاعب بالألوان وقلم الرصاص الذي لا يفارقه. إنه إذن سؤال الذات ذلك الذي تناقشه شخوص فنانا هذا، تلك التي وإن كانت ثابتة وليست في حراك إلا أنها تتراقص عبر موسيقى روحانية تخلقها الألوان المركبة لها. إنه بالتالي يعالج ثنائية «ما هو داخل» و»ما هو خارج»، أي والقولة هذه إنه يعيد طرح أسئلة الإنسان الأبدية التي تسكنه والتي تأتي ثنائية الشر والخير من بينها وأهمها، لما لها من أهمية.
إن العمل الفني إذن لدى رشيد عاقل هو الذات والموضوع على حد سواء، ما دام كما سبق وأكدنا أنه وما يقوم به ليس سوى إعادة تركيب ذاته عبر مرآتها فوق الحيز المكاني للوحة، وعبر ما يميزه من ألوان وخطوط ومنعرجات تشكل وجوها تتشابه إلى حد ما وتختلف في عمقها عبر ما يلعب به من ضوء وظل، لعب يثبت الواقع بما فيه من نعوت متناقضة على حد تعبير الفيلسوف الألماني الشهير نيتشه.
بهذا يكون الفنان التشكيلي المغربي رشيد عاقل قد خط لنفسه مسارا يدرك ما يقوم به داخله، وما ينجزه من أعماله يتفرد بها داخل المشهد التشكيلي المغربي، فقد أصبح جزءا من أجزاء التيار التشكيلي المغربي الجديد، الذي لا يتوانى عن البحث والتقليب في أدوات وأساليب جديدة تروم الانخراط الفعال في العالمية عبر هوية مغربية خاصة.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى