خريف العمر في ‘محطة المنصورة’

محمد اللبودي

في فن الرواية نجد حياة كاملة تتحرك أمامنا، ربما تبدو متشابهة ولكنها تبدو فقط. ورواية محطة المنصورة للكاتب والمترجم محمد محمد السنباطي تختلف كثيرا عما كتبه سابقا من روايات، من حيث الشكل والمضمون، وهي من أدب السير، وتنتمي إلى المدرسة الواقعية التي تقوم على تفسير فني للعالم حيث البناء المتماسك، والثنائية السبب والمسبب، الدال والمدلول… إلى آخر صفات هذه المدرسة وخصائصها التي أنتجت لنا روائع الأدبين العربي والعالمي.

وتعالج رواية محطة المنصورة شخصية رجل في خريف العمر يعاني من أمراض الشيخوخة، توفيت زوجته وتزوج أولاده وأصبح وحيدا في هذه الشقة الواسعة بمدينة دسوق، والتي كانت تضج بالحياة فأمسى محاصرا بالوحدة والشعور بالغربة مع اقتراب العمر من نهايته.

يتساءل ماذا إذا مت؟ لن يعرف أحد. ربما يكتشف أولادي أو أحد من الجيران ذلك بعد أيام أو أسابيع. هذه الهواجس شرعت تهاجمه. يشعر بالفراغ الذي يضربه من كل جانب. الحل يكمن في أن يجرب حظه مرة ثانية ويتزوج من أخرى تساعده في قضاء حوائجه.

بدأ رحلة البحث عن هذه الزوجة. عثرت له إحدى الجارات على مطلقة شابة دون الثلاثين فرفضها أولاده، ولم يحضروا عقد القران وقاطعوه، وتجيء ابنته لتأخذ كل متعلقات أمها حتى صورتها رافضة التحدث معه. كيف تنام أخرى في فراش أمها؟ وإذ تلفظت الزوجة بألفاظ غير مناسبة عن أولاده غضب عليها وطلقها.

يفرح الأبناء ويأتون لزيارته وتعود الأمور إلى سابق عهدها من الوئام والحرارة، لكنه سرعان ما يستشعر الوحدة ويحن إلى تلك المرأة بالرغم من عدم قدرته على معاشرتها معاشرة الأزواج. وزاد من سوء حالته انشغال الأولاد بحياتهم الخاصة فيستشعر الندم.

لقد تسرع في موضوع الطلاق؛ لذا قرر إعادتها لكن أهلها اشترطوا عليه أن يكتب لها نصف الشقة أو يدفع لها عشرين ألف جنيه.

ويعود أولاده إلى مقاطعته مرة أخرى، وتعجب الزوجة تلك بأحد أقربائه فيطلقها ويطالبه أهلها بسداد المبلغ أو إعطائها نصف الشقة فيدفع له ابنه البكري رأفت المبلغ المطلوب وتعود العلاقة بينه وبين أولاده الذين يسارعون هذه المرة بتلبية كل طلباته خشية أن يتزوج مرة أخرى، لكن ابنة أخيه التي كان كلفها من زمن بالبحث عن زوجة تتصل به وتخبره بأنها عثرت على ضالته المنشودة، زوجة مناسبة في مدينة المنصورة، سنها مناسب، تقطن شقة إيجار قديم تطل على محطة السكة الحديد.

ويذهب إلى المنصورة المحطة الأخيرة له ويتزوج هناك ويرفض الأولاد مرة ثانية حضور دعوته لعقد القران؛ بل يقوم ابنه الأكبر رأفت ببيع شقة دسوق ويحرمه من ثمنها ويحدث الخلاف بينه وبين أولاده من جديد.

وحينما أنجبت ابنة زوجته مولودا طلبوا منه أن يختار له اسما فوجد نفسه وبتلقائية يختار اسم رأفت الذي هو اسم ابنه البكري، وتنتهي الرواية.

يريد الكاتب هنا إرسال عدة رسائل من خلال هذا العمل المليء بالمشاعر الإنسانية:

1- تسليط الضوء على مرحلة من مراحل عمر الإنسان وهي خريف العمر.

2- العلاقة بين الرجل والمرأة ليست فقط علاقة جنسية، بل إن لها أبعادا إنسانية أكثر.

3- علاقة الوفاء والرباط القوي بين الأبناء والأم حتى بعد مغادرتها للحياة.

والسؤال الآن ما إذا كان الكاتب قد استطاع أن ينقل هذا المتن الحكائي إلى المتلقي من خلال عملية السرد، وهل نجح في عمل توازن بين ما هو جمالي وما هو معرفي أم لا.

أولا: عتبات النص: وتنقسم إلى:

عنوان الرواية، وهو من العتبات الأولى في الدخول إلى عالم السرد/ محطة المنصورة، وللعنوان هنا دلالة خاصة في هذا العمل؛ فهي المحطة الأخيرة التي وصل إليها بطل القصة واستقر بها.

صورة الغلاف: ويتصدرها القطار، وهو هنا يعبر عن الرحيل وسفر الإنسان في الحياة حيث ينتقل من محطة إلى أخرى. يقول السارد في بدء الرواية: “فلتكن المنصورة محطتي الأخيرة”

ثانيا: البناء الفني:

استخدم الكاتب تقنية الاسترجاع، وافتتح الرواية من نهايتها تقريبا. يقول: “يجأر القطار، يقترب أكثر، يطوح بالذكريات بعيدا عن رأسه. لماذا نخاف من القطارات؟ أحمل على كاهلي أكثر من سبعين خريفا”.

لاحظ أنه يقول “سبعين خريفا” وليس “ربيعا” ليوحي بالغربة والمعاناة، فهل القطار في نهاية الأمر سيصل إلى المحطة أي إلى النهاية؟ ربما.

الكاتب يحمّل الجمل بأكثر من دلالة، ويصبح النص مفتوحا على أكثر من معنى. أيضا يستخدم تقنية “تيار الوعي” وهي تقنية تعبر عن حيرة واغتراب الإنسان؛ فهي مناسبة للجو النفسي للراوي، كما استخدم الحوار استخداما جيدا وجعل شخوصه يتحدثون بحرية دون تدخل منه.

ثالثا: اللغة:

وهي أداة الأديب لنقل المتن الحكائي للمتلقي، والأدب هو في نهاية الأمر نص لغوي، وكلما كانت اللغة شعرية محملة بالصور كان ذلك أفضل.

يقول الراوي:

“يغوص القطار الآن في لحم المشهد، رشيقاً سريعاً، ثقيلاً ومدوياً… ينفض عن كاهله غبار السفر، ويستعيد دفقة من عنفوانه في شيخوخته الراهنة!”

يقوم الكاتب هنا بأنسنة القطار فيصبح هو والقطار شيئا واحدا.

وأيضا يقول: “كانت الشمس ما تزال طفلة وديعة”.

والنص مليء بهذه اللغة الشعرية، والمكثفة في الوصف، وهي تعبر عن الحالة النفسية لبطل الرواية.

التشكيل اللغوي للسنباطي لا يقتصر فقط على تضفير النص بالعامية وخاصة في الحوار، بل استخدم كلمات وجملا محلية يعبر بها عن البيئة التي يعيش فيها الراوي مثل: “لن يأخذوا مني أبيض ولا أسود” أي كثيرا ولا قليلا من المال.

استخدم الكاتب آيات قرآنية تتماس – أقول تتماس ولا أقول تتناص – مع دلالات النص وكذلك استخدم نصوصا من الشعر والأمثال الشعبية ووظف ذلك توظيفا جيدا.

رابعا: الشخوص: يصف البعض الرواية بأنها فن الشخصية؛ فهي تلعب الدور الرئيسي في إنتاج الأحداث، ورسم الشخصيات من أهم صفات المدرسة الواقعية، وقد اهتم الكاتب برسم شخوصه وخاصة بطل الرواية الذي تدور حوله الأحداث فوصفه من الخارج ومن الداخل مبينا الحالة النفسية له.

خامسا: الضمائر:

استخدم الكاتب ضمير الأنا، وهو الضمير الذي دائما ما يستخدم في قصص السير، إلى جانب العديد من الضمائر الأخرى، وضمير الأنا يضفي على العمل المزيد من الصدق.

سادسا: المكان:

اهتم الكاتب بالمكان اهتماما كبيرا من خلال الوصف الدقيق البارع سواء في شقة دسوق أو المسجد الإبراهيمي أو القطار أو شقة المنصورة. واهتمام الكاتب بالمكان راجع إلى معرفته بأهمية ذلك في العمل الروائي باعتباره يحتوي الأحداث ويلقي بالمزيد من الضوء على الشخصية.

سابعا: الزمان:

استخدم الكاتب تقنية الاسترجاع للتعريف بالشخصيات والأحداث السابقة واللاحقة والأمثلة على ذلك موجودة بكثرة في أرجاء الرواية، كما استخدم تقنية توقف الزمن ليقوم بالوصف. مثال ذلك: “ألقيت عيني من النافذة أرقب الفيلات المنثورة في الغيطان، الورش، الكباري الصغيرة فوق الترع البائسة، المداخن، القرى المنسية تحت الغيوم، الإعلانات الضخمة…. ”

لقد جاءت الرواية في شكل فني وجمال متوازن ومبرر فنيا ألقى الضوء على مرحلة مهمة من حياة الإنسان ومعاناته في خريف عمره عبر عن ذلك بإيجاز ويسر.

كاتب مصري من محافظة البحيرة

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى