نبوءات هاينر موللر في «هاملت ماشين»… حيث أوروبا متلفعةً بدمائها

رهام جرماني

مع ما يحياه كوكبنا في زمانه الحديث من ثورات على ديكتاتوريات وحروب على الإنسانيّ ببساطة، وذلك ببراءة اختراع بشرية تحركها كالماريونيت أصابع رؤوس أموال عصابات السلطة ومافياوات العسكر، ومع تصاعد الفكر الإجرامي، وتحديداً في أوروبا المتمثل بأعمال العنف المسلحة بين المدنيين، التي تتبناها على الأغلب منظمات إسلامية متطرفة كـ»القاعدة» أو «داعش»، نعلم حق المعرفة الممول الرسمي لها، إن كان في أوروبا أو أمريكا أو العالم، إضافة للنتيجة التي خرجت بها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، مع ما تكبدته من خسائر بشرية واقتصادية بتحويل الحروب التي تديرها لخارج قارتها العجوز، وأي مكان سيكون أخصب من الشرق الاوسط لتجارة كهذه؟
من هنا نستذكر رائعة الكاتب الألماني هاينر موللر (1929-1995) «هاملت ماشين» الذي تمتاز بالعديد من النقاط المهمة، ليس فقط لأنها جعلت موللر كاتباً سياسياً عالمياً، بل لأن الكاتب وضع نصه تحت عملية من الاختزال الهائل، من المرحلة الأولى لكتابة نص يفوق المئة صفحة، إلى ستة قطع معنونة كالتالي: ألبوم العائلة، أوروبا المرأة، شيرزو، طاعون في بودا ومجزرة من أجل غرين لاند، تمزيق صورة الكاتب، إصرار عميق على البقاء في الدرع المخيف آلاف السنين، فجميع هذه القطع موزعة في عشر صفحات فقط. وسنتطرق لأول مقطعين فيها كونها الأكثر تجسيداً لما يمر به العالم الآن، خاصة أوروبا.
فهاملت المطعون ليس إلا باسمه شكسبيرياً، بل هو بشكله وصوته وفكره وحتى بآلامه من عصرنا في عالمنا هذا، مستفزاً من تحفة شكسبير (هاملت) هاملتنا نحن، هاملت عصر الآلة/ الشيء. متحدياً بذلك المسرح التقليدي وطرائقه الأدبية من حيث الشكل المقدم للنص، ومن خلال تصديره على الخشبة، لانعدام المعنى والأخلاق بلغة ميالة بصورها السوداء لتقديم اليأس المسيطر على العالم نتيجة هيمنة أقطاب كبرى على مصيره، وانعدام القيمة للإنسان نتيجة تحوله لشيء، إن اختلف عن الجدار، فمن المؤكد أنه ماكينة، لذلك أضحى هذا النص ذا مكانة مهمة في التراث المسرحي العالمي، كما أنه أصبح مادة بحثية تدرس في علم المسرح في العالم.

ألبوم العائلة

يبدأ المقطع الأول بــ«كنت هاملت. وقفت عند الساحل وتحدثت مع الأمواج هراءً، خلف ظهري خرائب أوروبا، افتتحت النواقيس مراسم الدفن الرسمية، القاتل والأرملة شريكان وخلف الجنازة يسير المستشارون بخطوات عسكرية ويذرفون الدموع في حزن رخيص الثمن» لينتهي المقطع بالجملة «إذهبي إلى عرسك أيتها العاهرة تحت الشمس الدنماركية التي تشع على الأحياء والموتى، سأدفن الجثة عند مدخل الباب حتى يختنق القصر بالخراء الملكي. دعيني بعد ذلك آكل قلبك يا أوفيليا..».
موللر يريد تقديم المعنى الحقيقي لحركة التاريخ على الشعوب، إذ يقول كارل ماركس: «من المستحيل تماما تجاوز قوانين الطبيعة، ما يمكن أن يتغير في الظروف التاريخية المختلفة ليس سوى شكل هذه القوانين التي تفضح نفسها، فالتاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة وفي المرة الثانية كمهزلة».
من خلال استعادة التاريخ لحاضرنا المعاش باستحضار هاملت نلحظ أن هذا الفارس الدنماركي ما هو إلا تجسيد محدث لتراجيديا معاصرة، تدخلنا في دوامتها، وما هذه الآلة سوى أداة ليست لضبط الزمن، إنما للتعبير عن حاضرنا بصورته الحقيقية وبأبعاده المستقبلية، وبذلك نلاحظ أن موللر بجملته الافتتاحية على لسان هاملت القرن العشرين يبكي على عالم مازال يكرر أخطاءه ويقع في الحفر ذاتها من الحروب والاستبداد ويطور من أدوات القمع والسقوط، وما استحضاره لهاملت سوى للتحرر من أخطاء التاريخ، من خلال عصرنته بقالب الآلة العظمى التي سيطرت على العالم وبالأخص بعد انهيار الحلم الكبير لهاملتنا شاهداً على سقوط أكبر الأيديولوجيات الحداثية (الشيوعية الماركسية) تحت قيادة ديكتاتوريي الأفكار والشعارات، كسطوة ستالين «الديكتاتور» على النظام الشيوعي وتسييسه حسب مصالحه الشخصية، ناسفاً الجوهر الحقيقي للفلسفة الماركسية بأن السلطة للشعب والحرية حق وليست منحة، وما التسليم الذي يبديه هاملت في آخر المقطع، إلا اعتراف واضح بالجريمة، وتمهيد لإعادة سردها مع ضحية المسرحية الكبرى أوفيليا المرتبطة مباشرة بالمقطع الثاني في المسرحية «أوروبا المرأة».

أوروبا المرأة

لعل ما كتبه موللر في هذا المقطع من أكثر المقاطع تمعناً بالسياسة العالمية الحديثة ضمن سياسات الاستبداد وبكافة أصعدتها التي لا يحد من سلطانها لا قانون ولا سياساتِ الترضية. لذلك أثارت المسرحية في هذا المقطع الكثير من التساؤلات، ليس فقط ضمن دائرة المثقفين الألمان، بل تخطتها أوروبياً وعالمياً، كونها ترمي بالنظر، وبإسقاط بالغ الرمزية، نحو الضحية الكبرى (أوفيليا/أوروبا) وقد قولب موللر في مسرحيته، خصوصاً في هذا المقطع الذي نلحظ فيه أوفيليا تتداعى بقصدية واعية أمامنا… وتعرض ما في المخابئ، لتخرج بعدها كما في نهاية المقطع (متلفعةً بدمها).
وما أوروبا في نظر موللر سوى أوفيليا التي مزق الجميع جسدها، وتناوبوا على حرق روحها، كلهم منى دون استثناء أولاد عاقون، أنانيون في نظر هذه الأم الطيبة التي ماتت مخنوقة بالغاز، مشنوقة، مقطعة الشرايين، هي نفسها أوروبا التقسيم والتقطيعات الأيديولوجية ضمن اقتسامات للمال والسلطة، فهذه أوروبا بعد عصر الكارثة التي غدت (كذبيحة) للحاضر، ولربما المستقبل، ومع تغير صورة العالم اكتنزها البؤس وشرور الرأسمالية العمياء وكذب الاشتراكيين في تطبيق شعاراتهم، فأصبحت أوروبا فقيدة نفسها.
هذا الإسقاط لأوروبا على أوفيليا التي في النهاية مصيرها مؤلم، وهي الإنسانة الضحية وسط العنف والدم والانتهاكات، وبالأخص على صعيد العسكرة تحت ظل أنظمة سلطات القمع، التي إن لم تكن عسكرية داخلية كانت رمزية خارجية مزينة، وبهذا يعتبر هذا المقطع من أكثر المقاطع المعرية للتاريخ وللحاضر والمستقبل لأوروبا، وتحديداً بما تتعرض له حالياً من هجمات إرهابية ممنهجة، وإن كانت لا تقارن بما يتعرض له الشرق الأوسط، لكنها ذبيحة أيادي خارجية صنعتها أموال وأيديولوجيات أبنائها العاقين.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى