«ما بعد إسرائيل – نحو تحول ثقافي»: تفكيك نظام الحياة

فجر يعقوب

لايصرف الإسرائيليون من أوقاتهم شيئاً على تفحص تاريخ دولتهم الدموي. هم محصنون ضد هذا التاريخ، وكأن لقاحاً أبدياً قد اكتشف في لحظة انتسابهم إليها، وبالتالي لايبدو أن ثمة شيئاً ملحاً هنا لتوصيف (هوية الكارثة) التي تقودهم إليها النخبة الحاكمة، فهم مدربون على إنزال الكارثة بغيرهم، وهذا مرتبط بشرائح المجتمع الإسرائيلي الذي يتشكل باستمرار وانبثقت إلى الوجود كـ «فكرة سيئة منذ بدايتها». في كتاب «مابعد إسرائيل – نحو تحول ثقافي» للأكاديمي الإسرائيلي مارسيليو سفيرسكي الصادر حديثاً عن منشورات – المتوسط، ميلانو2016، بترجمة سمير عزت نصار، ثمة ماهو أبعد من القلق الوجودي العارم الذي اعتدنا أن نراه يضرب في ذلك الشق الخاص بنوع من المثقفين المصابين بانفصام الشخصية الحاد حين يجيء على ذكر اسرائيل. يذهب سفيرسكي المحاضر في الدراسات الدولية والإنسانيات في الجامعات الأسترالية أبعد من ذلك بكثير ويقرأ في لحظات مابعد اسرائيل، بحنكة ودراية وتعمق بحيث تكون الأهمية للمشروع الثقافي، اذ ستضع الولاءات السياسية القديمة كل شيء خلف هذه اللحظة.
يتحرى الكتاب الممارسات التي توَّلى هذا المشروع تحقيقها لنفسه عبر تشكيل آلة من الحقد على «الأغيار» فريدة من نوعها، تتجلى في أقانيم أربعة إن جاز التعبير: المتنزه، والمدّرس، والوالد، والناخب. من هنا يمكن الأكاديمي سفيرسكي أن يطل على نوع معقد في صناعة الهوياتية الإسرائيلية النافرة التي تبقي على تفوق اليهودي في مقابل تجسيد فكرة اضمحلال الهوية الفلسطينية وتلويثها ببذاءة الاستيطان واقتلاع الذاكرة من الأمكنة التي تتشبه بها.
ثمة ماهو أكثر تعجيزاً وفق فهم سفيرسكي للذات الصهونية القانعة بتضليل الإنسانية عبر أكثر من مصدر وفي أشد لحظات الانفصام الحاد التي تصيب شرائح من المثقفين حين لايمكنهم، أو هم لايريدون بنوع من التواطئ «المفولذ» سؤال المستعمرين الكولونياليين عن مصدر سلطاتهم الغاشمة وكيف تشكلت، وهم يردون ذلك على صيغة سؤال مبدد للشكوك التي تطاول التآمر والعجز في آن، اذ كيف يمكن للمضطهِد الجماعي أن يحولهما الى عادة اهمال منتجة، يعيد خلقها من ماسورة عدم الإقرار باضطهاد هويات الآخرين.
سيهدي مارسيليو سفيرسكي كتابه لأولئك الذين ظلوا مطرودين «من تلك المنطقة» منذ عام 1948، وسيتمنى لهم العودة. لكن هذا قد لايكفي أثناء التشبث بتوضيح فكرة الأقانيم الأربعة التي يستهدي الكتاب بها (288 صفحة من القطع المتوسط). في المنتزه الصهيوني سيظل تذوق الطبيعة مفتاحاً تعليمياً للمشاركين في النزهات، ذلك أن للمشي على الأقدام فائدة عظيمة، ومنذ بواكير هجرات الصهاينة الأوروبيين الى فلسطين في القرن التاسع عشر دأب رواد الحركة الصهيونية – الآباء المؤسسين العمل على تحويل كل مواجهة مع نقاء الطبيعة الى غمس أجسام المشاركين في قصص منتقاة للأرض. اسرائيل تعلم ساكنيها الجدد ألا يتسكعون فقط. اعادة إنتاج التآلف مع الأرض عبر المشي فيها وإخضاع بريتها وألوانها وروائحها عبر تحويلها الى ايديولوجيا سياسية للقهر. بهذا المعنى يتحول التنزه الإسرائيلي الى ممارسة عسكرية تحول الأرض الى منطقة: أي امشِ واحتل. مع المدرّس تزداد الأمور تعقيداً كما يذهب مارسيليو سفيرسكي ذلك أن التعليم في كل المجتمعات هو عمل على مراحل لتكوين الوعي وتمهيد مسار العقل. حتى أن ما يميز عمل روضات اسرائيل ومدارسها هو خدمة مجتمع مستوطنين مسلحين من طريق رعاية أعمال غير نقدية يقوم بها المدرّس لرحلات طويلة تعد الشباب بتحصين اسرائيل حتى يبدو أن ادخال العرقية الإسرائيلية فيها نوع من الديموقراطية. بالطبع يعرف الجميع في الدولة الإسرائيلية بالدور المزعج الذي يلعبه الآباء، حتى يتساءل سفيرسكي كيف أمكن مجتمع معاصر مكافأة أسلافه مكافأة اجتماعية من طريق تشجيع أبنائهم وبناتهم للخدمة في الجيش. أما الناخب الذي يلعب الدور الأكبر في شرعنة العنف ضد الفلسطينيين فإنه يجد مؤازرة أكبر في البرلمان حتى أن اضطهاد المنشقين سيشتد أواره في السنوات المقبلة كما يرى سفيرسكي.
«مابعد اسرائيل – نحو تحول ثقافي» يتعدى مسائل أساسية في تشريح جوهر البنى التي تقوم عليها الى اسرائيل زالقة الى مابعد تحولاتها الإستراتيجية في العمق من طريق ممارسة حياة بديلة أقل مايقال فيها إنها عواطف مزالة من ارتباطات مستوطنيها الاستعماريين. حتى يغدو ماقاله أستاذ النظرية النقدية في جامعة كارديف كريس ويدون حول الكتاب صحيحاً وملائماً حول دوره في اعادة نظم كل هؤلاء المنشقين عن هذا المجتمع الإشكالي والمنتظمين في دورة ثقافية واحدة تقدم تحليلاً فذاً لمكنونات الصهيونية الإسرائيلية وطرق تفكيكها ثقافياً، وكأن تخليصه من الهوياتية الصهيونية هو مايمكّن بالفعل من الوصول الى مرحلة مابعد اسرائيل، وليس قبل ذلك أبداً.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى