قراءة في قصيدة جميل أبو صبيح “سردية.. شجرة الكون”

خاص (الجسرة)

سما الإبراهيم

شجرة الكون : عتبة القصيدة ناقوس للخطر من جهة وإغراء بالأبدية من جهة أخرى. تصوير للحياة كما يراها الشاعر بجميع تجلياتها على أرض الواقع وعلى أرض المنتهى.
===
الشمس رمزية لتلك الحياة التي ننشدها كريمة طيبة هنيئة،(السماء بيتي) الذي نعود اليه بعد يوم شاق متعب؛ فاليوم عبارة عن إسقاط لمرحلة عمرية ، فالنهار هو الحياة ، نهار للتعب للكد والجد وربما لعمل شاق … ، ثم يكون المساء فنعود الى البيت لنرتاح من تعب النهار؛ هي آمالنا أحلامنا … حياتنا التي لم نصلها ولم نعشها، والتي نتمناها أكثر صفاء وأكثر نقاء وأكثر إشراقا.
(وأنا أفترش الرمل بين قبرين) تصوير دقيق لحالة الإنسان الراهنة.. وتصوير مرعب للحقيقة ، هي عملية طمس معالم الحياة فجأة ودفعة واحدة .
شاعرنا الكريم يفترش الرمل ، الرمل أرض بين بين.. ، لا هي بالصلبة كالتراب الذي نعيش عليه عادة ونعمر بيوتنا على مساحاته ولا هي بالهشة المنهارة .. ، شاعرنا يقف بين الأبدية وحياته الحقيقية المعاشة ، الحياة التي لم تعد تتسع لأحلامه وآماله وطموحاته.. لم تعد تتسع للعيش الكريم عموما… ، إنما هي أشبه بموت قيد الانتظار، أصبحت في نظره قبرا ضيقا يعيش فيها مكرها عددا من السنين ليمضي إلى قبر آخر لا يعلم تفاصيله ولا ما سيؤول إليه حاله فيه.. ، لا يعلم عنه سوى صورة نمطية اعتدنا تصورها لمشاهد القبور .. ،
لكن الشاعر لا يعني القبر في صورته ، بل تلك الحياة التي يحتويها.. ، وهنا هو يخوض غمار مقارنة عجيبة غريبة ولا مجال للرد عليها بل السؤال فيها يظل مطروحا ، وإجابتها لا تكون لحي ولا لميت ، فالحي لم يرَ القبرين ، إنما احدها، ولن نجد الإجابة عند من عاش القبرين ، لأن هذا الأخير قد مات وفُقِد الرجاء من إجابته…
شاعرنا يصف حياته بمفترق طرق ، بالأصح مفترقا لطريقين ، احدها عاشه ، ومن هول ما رأى شبهه بالقبر ، والثاني هو القبر حقيقة ، لكن المعتاد أن نشبه شيئا نعرفه بشيء آخر نعرفه لنخلص لوجه شبه متعارف عليه.. ، أما هنا فنحن أمام أمر معاش يقارنه الشاعر بشيء متخيل لا غير.. وربما لا يجمع بين الحياتين إلا الموت… ، الموت هو الرابط المشترك بين هذه الحياة التي نعيشها محملة بالوجع والألم والضيم والقهر والتشرد والقتل والتدمير والأنقاض وفناء تصوري … ، وببن أخرى هي الفناء بعينه ،
إنها صورة تفصيلية لما يعيشه الإنسان ، فلا هو بالحي ولا بالميت ، وإن كان أقرب إلى الموت منه إلى الحياة .
بعد أن يصف الشاعر حال الأرض وحال البلاد وانتقالها من حالة العمار إلى حالة الدمار، ينتقل لوصف حالة الناس ، فهم أقرب أيضا إلى ذلك الدمار … ، دمار داخلي تام ، الناس فيه أشبه بالحجر (يتكئ على حجر) ، فلا قلوب نابضة في وسط هذا الكم الهائل من الوجع ، تجمد القلوب وتحجرها مبعث للرعب ، من هول ما رأى الناس فلا أمل بالحياة ، إنما موت عارم ينهش الأخضر واليابس .. ، ويحول الإنسان تمثالا من حجر.
حاله الذهول الأعمى والترقب المخيف والاندهاش في وسط هذا الكون الذي بات غريبا ، فلا الجبال موجودة ولا ارتفاع ها هنا ؛
إنه تصوير لحالة الدمار السائدة أينما سويّ كل ارتفاع بالأرض يكون تغييب تام للحياة التي من شأن الإنسان أن يشيدها..
(لا نسائم ليل) .. لا هدوء ، لا سكينة ، لا سلام ، إنما الليل إرهاب مسترسل ومسرح للخفافيش ، وحجارة تشبه السجِّيل في وقعها ، رياح كونية عارمة تقتلع ما على الأرض وتسويه بها من فعل مهجنين ..
الشجرة هي الحياة في كل تجلياتها ، وهذه الرياح القوية تلعب بهذه الحياة وترعبها ،( الارض لي) أحيا فيها وأعيش عليها ، هذه الحياة الكئيبة المليئة بالقهر، و(السماء حديقتي) هي الحياة الأخرى ، هي الحديقة الغنّاء التي تأمل الروح الوصول إليها والعيش بين جنباتها ، حياة أخرى آمنة.
ينتقل الشاعر ليصف أمواج الفساد ، ليصف تلك الموسيقى الصاخبة المعلنة عن حالة البؤس القادمة؛ (مواكب موحشة ) تملأ الأرض وتعيث فيها فسادا… موسيقى لا نوتات فيها ولا ترانيم ، إنما تراتيل موحشة لا دين لها ولا عقيده… ، موسيقى مفزعه هي إعلان للأهوال المتلاحقة وبوق حرب لا تبقي ولا تذر.
فلا صبرا صارت لها ذكرى ولا شاتيلا ستكون ، فما فات من مجازر لا يعدو ان يكون نقطة في بحر الدماء التي تجري وستجري ، تمسح كل ذكرى بشعة لتخط على أعتابها ذكريات أكثر إيلاما وأكثر بشاعة وحروقا من الدرجة الأخيرة ، إن سلم الجسد منها بعد تعاقب الزمن .ستظل ندوبا في الذاكرة والروح لا تمحى . لا معالم للوحوش لا عنوان لا دليل … إنما ضواري تنسل من كل حدب وصوب .
كل البلاد تحت وطأة الشر لأن كل الناس متعبة ، كل المدن رهينة من الحدود الشرقية إلى الحدود الغربية من سبتة ومليلة إلى حلب وصنعاء.
شاعرنا هنا لم بغفل التعاقب الزمني للدمار ، فأتى بذكر سبتة ومليلة أولا ليوضح تاريخ الاحتلال من أول المدن المحتلة إلى آخرها حلب وصنعاء ، وبين هذا المدى مدن أخرى لا حصر لها ولا عدد.
يصف الشاعر حال تلك الأقطار التي أُحرقت فيها شجرة الحياة … ، احرقها المجرمون ليغرسوا محلها حياة جامدة باردة مرهقة متعبة موغلة في الوحشية … ، وحوش ضارية تنبعث من الأجداث لا بداية لهم ولا نهاية.. وحوش أفزعوا الحياة وجعلوها أكواما من ثلج ، دفنوا الحياة وأطفأوا أنوارها.
ثم نرى شاعرنا لازال متمسكا بالأمل ، أو ربما أضغاث أحلام تساوره ، أو ربما أطياف من نسج الخيال على ضفاف الأمنيات…، يحلم بالحياة السوية بعيدا عن الضواري من البشر لينتقل بعيدا إلى أرض أخرى تنعم بالحياة الباقية كي يتسلق السلم الوردي ، وهو سلم الشهادة ، سلم الارتقاء وعلى كتفيه وسام الشرف.. ، بوابه السماء من حيث يرتقي الشهداء عاده الأكثر شرفا وقدسية.
كما بدأت القصيدة ب(الشمس قنديلي) هنا شمس واحدة أطفأ نورها الراقصون على موسيقى الحرب الصاخبة … نراه ينهي قصيدته ب (قنديلي الشمس) ، حالة عكسية للبداية فالآن ليست شمسا واحده ، فلا يمكن أن نقارن هذه الحياة بتلك ولا هذه الأرض بتلك … ، هنا ملايين الشموس لا حصر لها ولا عدد، ولشاعرنا شمس تكون له نورا ، شاعرنا امتلك شمسا خاصة به جعلها قنديله… في أرض تعلق فيها الشمس على شجرة الكون .
رحلة معراجية لا نملك إلا أن نقف مشدودين إلى نهايتها .. ، وصف تفصيلي للحالة الراهنة للخراب على الأرض ، لحالة الولدان والشيبان…، لحالة الناس وبقائهم رهن قبرين أحدهما على قيد الحياة مفتوحا والآخر قبر من تراب يضم رفاتهم….،
كل الأقطار باتت قبورا جاهزة لاحتضان جيل من الولدان التي تركب الغيم هربا من هول ما يحصل… حالة من الفرار إلى النور ، إلى الحياة إلى السرمدية . مقارنة بين ماهو راهن حقيقي مرير وبين ما هو غيبي نوراني يبعث السلام والطمأنينة ، وكأن الروح تستعجل رحيلها إلى الضوء اللامتناهي .. إلى النور الرباني… ، فوضى تعتلي القصيدة في بدايتها وسكينة تخيم على نهايتها وكأنه مبتغى الشاعر وأمنيته بأن تكون أخراه أجمل وأكثر سعادة وسلام….،
نص لأول وهلة تراه مزدحما ثائرا لكن لا يلبث أن ينساب حتى دون أن تدري.. ، نص قوي به زخم تصويري وتفصيلي .. ، وصفي يختصر المسافات الزمنية والأماكن تحت جناحه بلمح البصر ، يأخذك من مكان إلى مكان… ، يسقط الوضع على أكثر من أرض..، يتحدث بصيغه العموم في وصف خاص..، يأخذك من الذات إلى العام في مشهد تصويري جميل يصف الحالة الإنسانية وأنّاتها..وتفاؤلها كذلك .
وبرغم طول النص (سردية .. شجرة الكون ) إلا أنه مشهدي أسطوري مفعم بالتشويق والتكثيف اللغوي والصوري بسرد شعري يختل عن حذف منه شيء ، نقرا فيه لغة بصرية تمتاح من تقنيات الفنون البصرية الحديثة أسلوب صياغتها الفنية ، فيها استفادة من السينما والتشكيل والخيال الأسطوري والديني الصوفي بسرد يدخل في صميم أنوار الروح الصوفية وألحانها ورحيلها إلى غيبيات العالم الآخر عالم الشهود مع حقيقة انه في عالم الوجود ، إنه عالم شعري فسيح نقلنا إلى عالم لذة القراءة ..

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى