غياث الأخرس: ملحمة العِنب والفولاذ

سامر محمد اسماعيل

غياث الأخرس رائد فن الحفر في سوريا، أسس قسم الحفر في كلية الفنون. لم تكن جماعة العشرة التي أسسها منسجمة لكنها منفتحة ونقدية. تعلم الأخرس الحفر في إيطاليا واسبانيا وفرنسا. وفي قسم الحفر في الكلية كان التلاميذ يخرجون إلى الطبيعة، أما اليوم فهناك الضغط الأكاديمي ونقصان الثقافة البصرية.

يتذكر غياث الأخرس (مواليد حمص 1937) بحنين واضح تجربة (البيت المفتوح) التي خاضها لمدة ثلاث سنوات متواصلة، عائداً بنا إلى ستينيات القرن الفائت؛ حيث عمل رائد الحفر السوري على تنظيم زيارات إلى معارض كان يقيمها في بيته بأبي رمانة، المنزل الواقع في الحي الدمشقي. كان الجمهور يأتيه من مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية لمشاهدة أعمال هذا (الحفّار) الذي دمج بين مفهوم المرسم الشخصي والبيت وصالة العرض، إلا أن هذه التجربة لم تلبث أن توقفت عام 1970: «كان الجمهور وقتها معظمه من الطبقة الوسطى، لا سيما معلّمي وأساتذة الجامعات، وأذكر أن العديد منهم كانوا يقتنون اللوحات ويدفعون ثمنها على شكل أقساط، فالجمهور لا يمكن أن تنظر إليه على غير ما هو عليه، إذ إن لديه فضولاً دائماً لرؤية مرسمكَ وعوالمك الشخصية».
لم يتخلَّ (الأخرس) عن ثقافة البيت المفتوح، فهو يستقبلنا في بيته، صانعاً القهوة بنفسه، وببشاشة، محيلاً إيانا إلى حديث شيّق عن (المركز الوطني للفنون البصرية) مشروعه الفني الرائد الذي أشرف على صياغته من ألفه إلى يائه منذ عام 2007، جاعلاً منه اليوم بيتاً ثقافياً مفتوحاً لزوار ومحبي الفن بعد افتتاحه مؤخراً في الحي الجامعي للعاصمة ليصبح مستقبلاً الشارع الثقافي: «في بداية الأمر لم يكن الناس يتشجعون على دخول المركز، لكن وبعد الافتتاح تقاطرت فئات كثيرة ومتنوعة من الجمهور لزيارته، والآن ستلاحظ إذا ما قمتَ بزيارة إلى المركز حجم التنوع بين الزائرين، إذ إن أغلبهم من عائلات ومدارس وطلاب جامعة يقضون أوقاتاً طويلةً في مشاهدة الأعمال الفنية لتشكيليين جدد، يخوضون معهم نقاشات مباشرة، سواء في النحت أو الحفر أو التصوير».
حمص
عاش (الأخرس) سنوات طفولته في حمص، المدينة التي فتح عينيه على بيوتاتها وأسواقها القديمة، مدفوعاً لمزاولة الرسم بتشجيع من أستاذيه في مدرسة (التجهيز الأولى) (عبد الظاهر مراد) و(صبحي شعيب) لتسانده ظروف عدة في تكوين مناخه الخاص بعد أن استأجر له والده تاجر الأقمشة المعروف مرسماً خاصاً في حي (البغطاسية)؛ إذ حرص الأب المتنور على ترك الفضاء رحباً أمام الفتى الطالع بقوة إلى برية الحياة: «لم ألبث كثيراً في مرسمي الأول وسرعان ما انتقلتُ بعدها إلى مرسمٍ آخر قريب من بساتين حمص ودوحة ميماسها، بزيارات كل من صديقيّ الفتوة (غسان السباعي) و(أحمد دراق). رسمنا وقتها بالزيت مناظر طبيعية، وشعرتُ بالمسؤولية إزاء احتفاء والديَّ بابنهم الذي لم يكمل وقتها عامه الثالث عشر، فقد كان عليّ أن أثبت لأبي رغبتي في الرسم، وأن ما خصه من رعاية بموهبتي لم يذهب أدراج الرياح».
ما هي إلا سنوات قليلة حتى نضج حلم الهجرة لدى الشاب الصغير، ميمّماً وجهه نحو مصر، فبعد عراك مع والده وإقناعه بجدوى رحلته الأولى إلى بر النيل سافر (الأخرس) عام 1955 ليبقى هناك حتى عام 1957 دارساً التصوير في (كلية الفنون الجميلة)، الأكاديمية المصرية التي سيمضي فيها برفقة صديقيه (برهان كركوتلي) و(هشام زمريق) أياماً من العمل والبحث المضني في قيم اللوحة ومذاهبها؛ ليتعرف فيها على (عبد العزيز درويش) أستاذه الدارس في إسبانيا والذي سيشجعه على السفر إلى إليها لإكمال دراسته هناك، فما كان من الشاب الطموح إلا إقناع أبيه بفكرة سفره الثانية، حيث قطع بالباخرة عام 1958 رحلته الهوميرية من شرق المتوسط إلى غربه، وصولاً إلى مدريد، ليدرس هناك في أكاديمية (سان فيرناندو) للفنون الجميلة فنَّي التصوير والحفر حتى عام 1960: «الحفر كان بالنسبة لي مهماً للغاية، ثم انني أدين لمدريد أواخر الخمسينيات لأنها في ذاك الوقت كانت مختلفة عن باريس وروما وكان يسودها مناخ فني عميق؛ ناهيك عن التعقيدات السياسية داخل الوسط التشكيلي التي واكبتها في ظل حكم فرانكو للبلاد، وانعكس ذلك في جو الأكاديمية، فالجميع كان هناك أستاذاً للآخر في النقاشات السياسية. الأهم في العاصمة الإسبانية كان بالنسبة لي هو التفاعل الكبير من الأساتذة مع الطلبة الزائرين، مما أتاح لي هامشاً كبيراً من الحرية والتعبير عن آرائي الأولى في التشكيل المعاصر».
جالَ الفنان السوري في كل أنحاء إسبانيا، متعرّفاً هناك على الوسط الثقافي والفني الذي لم يكن حضوره فيه عابراً، فبلاد الفلامنكو ساهمت في تكوين شخصيته الفنية كحفّار، إذ كان قد جاءها شاباً صغيراً ليغادر منها إلى روما، المدينة التي سيدرس فيها على يدي أستاذه (جولياني) فن الحفر حتى عام 1962، منتقلاً من العاصمة الإيطالية إلى باريس لمتابعة دراسة فن الحفر وحفر الطوابع: «كنت فضولياً جداً لتعلم كل شيء في أكاديمية (ايستيان) المدرسة الوحيدة في أوروبا التي وقِّعت معاهدة حولها، إذ كانت تختص بفن الكتاب وفن الحرف وحفر العملة والطوابع والإعلان، حيث كان الشباب يُرسَلون إليها من باقي البلدان الأوروبية».
جيل النهضة
أسماء كثيرة تربت على يدي هذا الفنان الذي لم يبخل يوماً على طلابه بالمشورة والحوار والخبرة طوال سنواته الطويلة التي قضاها كأستاذ ومعلّم لفن الحفر، حيث أسس الرجل لجيل (النهضة) كما يسميه من الحفّارين والمصوّرين الذين سوف يكون لهم حضورهم المفارق في المحترف السوري المعاصر من أمثال: (عبد الكريم فرج، ويوسف عبدلكي، وسعيد طه، ومصطفى فتحي، وزياد دلول، وهند زلفة، وخلدون الشيشكلي) وآخرون: «كنت آمل أن يستمر قسم الحفر كما أسسناه على ذلك التناغم الرائع بين الأساتذة والطلاب، حيث كنا نخرج معهم إلى الطبيعة والمدن والبلدات في الريف السوري البعيد، لإنماء الثقافة البصرية لديهم، أما اليوم فهناك محض مخابر وضغط أكاديمي على الطالب لنيل الدبلوم والماجستير، فلقد أصبحت كلية الفنون الجميلة لدينا من أفشل الكليات في جامعة دمشق، وهذا ليس رأيي وحدي بل باعتراف وزراء تعليم سابقين؛ خذ مثلاً وُرَش المركز التي نعمل فيها على عمل جماعي حر وتفاعلي وتحفيزي، لإحداث فطام الطالب عن الأستاذ، بعيداً عن هذه البطريركية المغلقة، والتي يتجلى فيها كل أنواع القمع التعليمي للفنانين الجدد الذين تراهم اليوم يهاجرون فرادى وزرافات إلى دول الغرب هرباً للدراسة من جديد».
جماعة العشرة
مع مطلع السبعينيات أسس (الأخرس) مع رفاق دربه ما عُرف بـ(جماعة العشرة) التي انتهت عام 1974 بإيعاز شفوي نقله وزير الإعلام السابق عدنان بغجاتي بما يعني «افرطوها»: «تجربتنا كانت نوعاً من الطموح، وانتماءً لبلد له ثقافة وجغرافيا ضاربة في القِدم، هو ائتلاف فني بريء من السياسة، لكن لأعترف أنه لم يكن الجميع في هذه (العشرة) يحب بعضه بعضاً، والأصح لم يكن البعض يحب تجربة البعض الآخر، لكننا بدأنا مع حوارات في بيوت الزملاء، وأقمنا معرضين في المركز الثقافي العربي بأبي رمانة، وآخر في قاعة المتحف الوطني. فـ(جماعة العشرة) كان أعضاؤها من كل المشارب والتيارات، ففيها الشيوعي غسان سباعي، والقومي السوري فاتح المدرس، والبعثي نعيم إسماعيل، أما البقية فكانوا ملونين، ولقد خضنا سويةً حوارات ثقافية وفنية عميقة، ورغم كل الاختلافات لكن كانت هناك رغبة حقيقية بتطوير شيء ما، ولم يكن ببالنا نقد أداء اتحاد الفنانين التشكيليين الذي كان وقتها عبارة عن نقابة صغيرة وفاشلة. حتى وزارة الثقافة لم تكن نداً لنا، فالوزارة في ذلك الوقت كانت من أرقى وزارات الثقافة في العالم العربي، وتضم بين مؤسساتها مختلف التيارات والينابيع السياسية والثقافية. بعدها ضممنا (عبد الله مراد) و(منذركم نقش) إلى الجماعة التي أريد أن أقول إنها كانت ظاهرة مشابهة لما تأسس في العراق آنذاك من مجموعات فنية تاريخية كجماعة (البعد الواحد)، وجماعات حسن آل سعيد والعزاوي ورافع الناصري والجميعي، وسواها من الجماعات التي ظهرت في تلك الفترة في كل من لبنان ومصر والمغرب العربي، والتي أسست قاعدة صلبة للثقافة التشكيلية تأثيرها بادٍ حتى الآن».
صدمة الحداثة
الحداثة دخلت كل بلدان العالم العربي بل العالم الثالث عموماً، لكن لماذا أخذت مكانها بشكل صحي في بلدان أخرى كمصر والمغرب والعراق، وبقيت لدينا هامشية؟ يتساءل (الأخرس)… ويجيب: «أتذكر الآن كيف كنتُ أزور القرى والبلدات التي جاء منها طلابي، وكيف كنتُ أحفّزهم على رسم قراهم، وتطوير ثقافتهم البصرية حول المشهد. لم نكن نتحاور أنا وهم في منظر أو طبيعة أو شجرة، بل نتكلم عن جملة بصرية مضمرة في الأمكنة، المرئي واللامرئي، الثقافة البصرية لا تعطى يا صديقي، الثقافة البصرية في التشكيل لا نملكها. أتذكر هنا فاتح المدرس كيف كان يقف لسنوات طويلة أمام قاسيون ويقول لي: (ابن الحرام هذا الجبل لونه معقدني). المدرّس كان يتكلم عن قاسيون لا كمنظر، بل كلون ترابي وضوء وكتلة، لون منتمٍ للأرض، فالمدرّس كان فناناً بالمعنى المكاني، مثلما هو إلياس الزيات فنانٌ منتمٍ بالمعنى الزمني البحت، مثله مثل المصوّر الكبير محمد حماد. الزيات لم يعمل على أيقونة وليس رسام كنيسة كما نعته ناقد خفيف بذلك. المشكلة لدينا أن مصوّراً فاشلاً يصبح ناقداً جيداً!».
الحفر على الليلينيوم والمعدن والخشب (الألفونة)، عمل عليها كثيراً هذا الحفار بعناد كبير، فكل أعماله التي حققها على المعدن كما في لوحته (الولادة) صنعها بالتكنيك نفسه مع خلطة وتكنيك الحبر الممدد، فهو لا يرسم ثم يحفر، بل يحفر مباشرةً خطوطاً تحرّضه على عملية التكوين.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى