الفيلم الألماني «توني إيردمان»: الأب الذي يتصرّف بحمق ليسعد ابنته الأربعينيّة

سليم البيك

في السخرية (Irony) ثلاثة أنواع: الدراميّة والظّرفيّة والكلاميّة. الأخيرة تخصّ الكلمات، من الأسماء إلى الأحاديث التي تبدو كأنها تسخر مّما تدل عليه بالإشارة إلى عكسه. والظّرفية تخص ما يحصل من المواقف المتوقَّع عكسها.
أما الأولى فتكون حيث يعرف المشاهدون ما لا تعرفه بعض الشخصيات في الفيلم، ما يمكن أن يتسبب بمواقف مضحكة فيه سخرية من أحد شخصياتها. معظم ما يمكن أن يشمل سخرية في السينما يمكن إحالته إلى واحدة من هذه التصنيفات، أو إلى غيرها، حيث لا تكون السخرية والضّحك ضمن علاقة بين الفيلم والمُشاهد، بل بين شخصيّات الفيلم بعضهم
مع بعض. وهذا هو الحال في الفيلم موضوع هذه الأسطر. فالسخرية فيه تقوم بها إحدى الشخصيات لإضحاك شخصيات أخرى في الفيلم وليس (فقط) لإضحاك مُشاهديه، ما يمكن أن يعطي مصداقيّة أكبر لما تتم مشاهدته، وبالتالي تأثيراً أكبر للموقف أو الحديث المضحك أو الساخر في المشاهدين، هذا ما يمكن أن يجعل الكوميديا في الفيلم حقيقيّة، تتسبب بها إحدى الشخصيات لإضحاك أخرى، وليس المُشاهد، فلا يشعر الأخير أنّه في سيرك وأنّ الشخصية مهرّج.
والسخرية أو الكوميديا تأتي من شخصية واحدة هنا، وينفريد أو توني إيردمان، النمساوي بيتر سيمونيشيك، وتأتي في جرعات إضافيّة كلّما جاورت الشخصية الرئيسية الثانية في الفيلم وهي ابنـته، إينيس، الألمانية ساندرا هولر، الجادة في حياتها وعملها، والتي نادراً ما تضحك.
الابنة، أربعينية، من أفضل الموظفين في شركة ألمانية مقرّها في بوخارست، يخرج أبوها من السجن في وقت بدئها مشروعاً جديداً ومهماً في الشركة حيث تعمل. لا نرى أباها في حالة جديّة أبداً، على عكس ابنته، معظم أحاديثه وأفعاله معها تكون للسخرية، لا منها بل من الحالة التي هي فيها، محاولاً إخراجها منها بشتى الطرق. يهرّج لها وليس عليها، يلاحقها حيث تكون، من العمل إلى النادي الليلي إلى حيث تكون مع آخرين تعمل معهم، لإخراجها من الجديّة المفرطة التي تعيشها، وإن استدعى ذلك خلق مشاكل وعراقيل في عملها.
يلحق وينفريد ابنته إلى بوخارست ليكون معها، يعيش في شقّتها ويرافقها إلى اجتماعات العمل، لكن على أنّه توني إيردمان، الشخصية الغريبة ذات الشعر الأسود الطويل، المثيرة للضحك كيفما تكلّم، الاجتماعيّة التي صنعت أصدقاء من زملاء وأصدقاء الابنة، وذلك كلّه ليخرجها من نمط الحياة العملية التي تستهلك طاقتها ويومها، ولا يخلو ذلك أبداً من مواقف محرجة يضعها فيها. كانت إينيس تتقبّل نكات أبيها ومزحه حين كانت طفلة، لكنّها الآن، وهي من المديرين في شركة بترول، لم تعد تجدها كذلك، لا نراها تضحك لها بل تغضب، أو في أحسن الأحوال تتجاهل مطيلةً النّظر إلى أبيها، لكن هنالك مرّة وحيدة نجد توني فيها جدياً في حديثه، وهو ما قد يجعل سؤالَه لها في حينه مبرّرا كل تصرفاته، بدءاً من مجيئه إليها في بوخارست وانتهاءً بوضعها طاقيّته وطقم أسنانه البارزة التي يستخدمها هو للسخرية من الآخرين.
يسألها إن كانت سعيدة في حياتها، لا تجيب، تقول بأنّ كلمات كهذه كبيرة ولا تفهمها، ندرك هنا، لجديّته ربما، أنه من الأوّل كان يفكّر بسعادة ابنته التي كانت تحب نكاته وأنّه يفعل ما يفعله الآن لذلك. لكنّه لا يتركها، في مراحل متقدّمة من الفيلم يضعها في موقف يجعلها فيه ترسم على البيض ثم تغنّي لويتني هيوستن، أغنية كانت تحبها في صغرها كما يبدو، وهو يعزف على بيانو صغير. في هذا المشهد نرى إينيس للمرة الأولى تتحرر من الشخصية التي فرضتها عليها بدلتها ووظيفتها، نراها تنفعل في الغناء ويعلو صوتها ونرى أباها ينظر إليها فرحاً بما فعله من أجلها.
الفيلم (Toni Erdmann) الذي أخرجته الألمانية مارين آد نافس على السعفة الذهبية في مهرجان كان الأخير، قد لا يكون بمستوى العديد من الأفلام المنافسة في حينه إلا أنّه طرح كوميديا لا تقترب السينما منها كثيراً، وهي كوميديا الشخصيات بينها وبين بعض، وليس بينها وبين المُشاهد، وهي، فوق ذلك، أتت ضمن معنى إنساني فيه من الإيثار ما يمكن أن يقدّمه أب لابنته، فهو لم يكن يفكّر في كل ما تصرّف به، إلا في سياق سعادة ابنته المبتغاة، بدا أحمق كثيراً، وبدا ساذجاً وسمجاً كثيراً أيضاً بالنسبة لباقي الشخصيات وتحديداً ابنته، لكن ذلك في النّهاية كان أسلوبه في جلب السعادة إلى ابنته التي لم تعرف بمَ تجيب حين سألها إن كانت سعيدة في حياتها.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى