«البرهان».. جمهورية المرض

عباس بيضون

«البرهان» الصادرة عن دار الجمل هي العمل الثاني في ثلاثية «الدفتر الكبير، البرهان، الكذبة الثالثة» لأغوتا كريستوف الكاتبة المجرية الأصل التي هاجرت إلى فرنسا وكتبت بالفرنسية. إلا أن «البرهان» مثلها مثل «الدفتر الكبير» تردّنا إلى نشأة أغوتا كريستوف المجرية وإلى ما كان يومها «المعسكر الاشتراكي».
مع ذلك فإن روايتي أغوتا كريستوف ليستا من الأدب النضالي. نعرف أننا في مدينة حدودية في بلد اشتراكي ونتعرف على شخصيات لكل منها قصتها، لوكاس الذي عبر أخوه الحدود ولا يزال ينتظر عودته، الأب الذي قطعت عنه الدولة راتبه فعاش على اعطيات المؤمنين الذين يقلون خوفاً، ياسمين التي حملت من أبيها، ماتياس الابن المشوّه، فيكتور صاحب المكتبة الذي يبيعها للوكاس ليتفرغ للكتابة عند أخته التي تسمم حياته مما يحمله على قتلها. كلارا التي تعيش تحت وطأة إعدام زوجها، كلاوس الذي يعود فلا يجد أخاه الذي لم يطق انتحار ماتياس ابن ياسمين الذي رباه. لكل من هؤلاء قصته التي تدين بصورة جانبية الحكم الاشتراكي، لكن الكاتبة تريد أن تبقي هذه الإدانة تلميحية وتتجنب الخطاب السياسي.
النظام الأيديولوجي مستبد ويعدم تراث البلد وثقافته الموروثة لكننا لا نجد في الرواية أي خطاب نضالي، حتى أننا لا نعرف فحوى الثورة التي توشك على الهبوب. بل إن الكاتبة لا تسمي البلد إلا بـ «ك» الحرف الأول من اسمه. ما تفعله الكاتبة هو انها تحيل النظام الأيديولوجي إلى ما يشبه الحكاية، إذ لا ننفك ونحن نقرأ سيرة لوكاس، بطل الرواية الأول، نفكر بالصور المتحركة. لوكاس يحمل الطعام إلى الكاهن، لوكاس ينقل ياسمين وابنها ماتياس إلى بيته ويستضيفهما فيه، هذا ما يحدث عفواً وبدون مقدمات، كأننا نقرأ حكاية أو نرى فصلاً من الصور المتحركة. وجرياً على ذلك لا نفهم لماذا لم يحب لوكاس ياسمين الفتية الجميلة، بينما يلاحق كلارا التي تكبره سناً بكثير، يحبها لدرجة تهديد عشيقها بالقتل، انها أحداث تقع فحسب، تقع بدون تبرير وبدون تفسير. سياق لاهث لأحداث تتتابع وتتلاحق، وحسبها أنها تقع. بل لا نفهم بعضها على الإطلاق. لا نفهم لماذا يحتفظ لوكاس بهيكلين عظميين في بيته أحدهما لجدته، ولماذا يضيف إليهما هيكل ماتياس. يمر هذا بدون أن نقف عنده، فهذا السلوك التكروفيلي لا يبدو مَرَضياً، بل يبدو في حاله ماتياس إشعاراً بالحب ورغبة بالاحتفاظ بمن نحب. لنقل إن الأشياء تقع ولكنها ليست في الواقع. هكذا تبقى رواية أغوتا كريستوف على حافة الحكاية، ان الرعب الإيديولوجي يولد فانتازياه، يولد مقابله الفانتازي، يولد حكايته.
الرعب الأيديولوجي، لكن أينه، هل هو في الخطاب الأيديولوجي نفسه، هل هو في الاصطلاح السياسي. بالطبع هناك وجود للاصطلاح السياسي والثقافي، نعرف أنهم يخلون المكتبة من الكتب التراثية، الكتب التي سبقت الأيديولوجيا الاشتراكية، لكننا لا نعرف أسماء هذه الكتب، ولا نعرف لماذا تجري تصفيتها. الكاتبة قلما تلجأ إلى التفسير، الكاتبة قلما تتوسع في الجملة السياسية، بل نحن لا نجد هذه الجملة على الإطلاق. العالم الاشتراكي أو الأيديولوجيا الاشتراكية المفروضة لا تبدو أيديولوجيا. ليس في الرواية أي سجال سياسي من أي نوع، واضح أن الكاتبة تتجنب هذا السجال أو أنها لا تجد المسألة هنا. الكاتبة بكلمة تتجنب السياسة، ثمة إعدامات واعتقالات، زوج كلارا توماس أعدم، لكننا لا نعرف لماذا. ليس هناك إدانة أقسى من ذلك الإعدام الذي لا يبدو مبرراً ولا نعرف له سبباً. انه إجرام خالص، اعتداء بربري فحسب. قلما نقرأ سياسة، لكن الرعب الأيديولوجي يظهر في غير السياسة، انه يظهر في وقائع الحياة نفسها. انه يوجد في الهياكل العظمية التي يحتفظ بها لوكاس الذي لا نعرف عنه أي سادية، بل كل ما نعرف عنه هو الحب والعطف، حبه لأخيه وحبه لماتياس. هذا الرعب يبدو بالدرجة نفسها ولكن بقدر من الالتباس، في أوديبية ياسمين التي تعاشر أباها بدون أي إحساس بالذنب، وتسمي ابنها منه باسمه. هل يمكن أن تكون السادية والأوديبيه هما مظهر النظام الخفي. ألا يمكن أن يكون تسميم حياة كريستوفر من قبل أخته وقتله إياها إدانة بعيدة للنظام الأيديولوجي. الا يكون جنون كلارا إدانة من نفس النوع. الا يعني هذا ان الاستبداد الأيديولوجي والسياسي يعبّر عن نفسه بهذه الحالة من المرض. ألا يعني اختفاء الكلام السياسي في الرواية إدانة أخرى للنظام الذي يحجب أي نقاش ويترك الحياة تتآكل وتتسمم في موضعها. عاد كلاوس في النهاية لكن لوكاس، الذي انتظره طويلاً، كان اختفى وسيطرد كلاوس الذي عاد أجنبياً إلى بلده: لا أمل.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى