روبرت ستون في جحيم حرب فيتنام وآثارها

أنطوان جوكي

حرب فيتنام هي محطة سوداء في تاريخ أميركا الحديث، لكنها أيضاً موضوعٌ لا ينضب لكتّاب أميركيين كثر جعلوا منها استعارةً للجحيم في روايات لا تحصى. روبرت ستون هو واحد من أبرز هؤلاء، كتب روايةً رائعة عن سياسة بلده الامبريالية، «علَمٌ لشروق الشمس» (1981)، وأخرى لا تقل روعةً عن سديم عالمنا الراهن، «بوابة دمشق» (1998). لكن روايته الأهم التي جلبت له الشهرة، ونال عليها «جائزة الكتاب الوطنية»، هي «جنودٌ كلابٌ» (1974) التي استوحاها من تجربته كضابط في سلاح البحرية، ثم كمراسل حربي خلال حرب فيتنام، وهي الفترة التي عاشر فيها بعض وجوه «جيل البِيت». رواية اقتبس المخرج السينمائي كاريل رايس منها فيلمه الشهير «من سيوقف المطر» (1977)، وصدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار L’Olivier الباريسية تحت عنوان «خط الهروب».
تنطلق أحداث الرواية في سايغون حيث نتعرّف إلى الكاتب الصحافي كونفيرس الذي أتى إلى هذه المدينة، من أجل جمع مادة رواية أو نص مسرحي حول حرب فيتنام ومراسلة بعض الصحف والمجلات. ولأن الشجاعة تنقصه للذهاب إلى الجبهة حيث تدور المعارك بقنابل النابالم، يمضي وقته تائهاً في شوارع المدينة التي تمرّ الحياة فيها على وقع دوي الانفجارات وتساقُط أمطار غزيرة مصحوبة دائماً برطوبة خانقة، أو جالساً في حاناتها برفقة شابات لا نعرف إن كنّ بائعات هوى أو قرويات أو جنديات في حركة الفيتكونغ المسلحة.
وحين يبقى معزولاً في غرفته، نراه مستلقياً على السرير يتأمّل السحالي التي تتنقل بحرّية على الجدران وتلتهم الحشرات، وهو مشهدٌ يسلّيه كثيراً حين يستهلك الكحول أو المخدرات أو كلها معاً، أي معظم الوقت. وأحياناً، نجده يتساءل حول قيمة الحياة البشرية أو يسائل أخلاقياً عن جدوى سلوكه، ولكن من دون الذهاب بعيداً في هذه التساؤلات.
زوجته مارج التي بقيت في كاليفورنيا تكتب له رسائل طويلة تروي فيها كل تفاصيل حياتها، بما في ذلك امتعاضها من عدم عثورها على شريك لمغامراتها الجنسية. ولا عجب في ذلك، فنحن في مطلع السبعينات عندما كان يشكّل التحرر الجنسي واستهلاك المخدرات ركنين أساسيين في ثقافة أميركا المضادة. ومثل كثيرين غيرهما رفعوا شعار العلاقات العاطفية الحرّة، يتخبّط كونفيرس ومارج في أزمة وجودية وهوياتية. لكن حياتهما ستنقلب رأساً على عقب حين يقرر كونفيرس تهريب كمية كبيرة من الهيرويين إلى كاليفورنيا ويوكل مهمة استلامها إلى مارج.
فمع أن العملية تبدو مضمونةً، نظراً إلى اضطلاع الجندي الأميركي هيكس بنقل الهيرويين من سايغون إلى كاليفورنيا، لكن بسرعة يبيّن لنا أن لا شيء مضمون سلفاً لأن كثيرين يتطلّعون إلى وضع يدهم على هذه الغنيمة: الجندي هيكس بالذات، ولكن أيضاً عسكريين سابقين تحوّلوا إلى رجال أمن ولن يلبثوا أن يأخذوا كونفيرس رهينةً، فور وصوله إلى أميركا، لإجبار مارج وهيكس على تسليمهم «البضاعة»، وهو ما سيقود هذين الأخيرين إلى الفرار معاً، متوقفين من حين إلى آخر في موتيلات بائسة لتذوّق بضاعتهما وتحويل واقعهما المادي الكريه إلى فردوس هلوسي يفقد ألوانه عند كل يقظة.
والنتيجة؟ تفقد مارج القدرة على التمييز بين ما هو حقيقي وما يتراءى لها تحت تأثير المخدّر، فتسقط في الإدمان وتستسلم للهروب كما لو أنه المؤشّر الوحيد على أنها لا تزال حيّة، وتترك هيكس يقودها ويقرر وجهة ترحالهما، كما لو أنه خشبة خلاصها الوحيدة. في المقابل، يدرك كونفيرس بسرعة الورطة التي وضع نفسه وزوجته فيها، ويتبيّن له أن بلده أصبح فضاءً خطيراً يتداعى فيه كل شيء وتأكل الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة، تماماً مثل فيتنام. أما النهاية فستكون على قمة جبل كانت تقطنه طائفة هيبّية يدّعي مرشدها النبوءة، حيث يحل منطق السلاح مكان هلوسة المخدرات، فارزاً بنيرانه المطارِدين والمطارَدين معاً إلى أحياء معطوبين وأموات.
باختصار، رواية مدوخة تستحضر بتأملات صاحبها نظرة جوزيف كونراد الرؤيوية، وبأسلوب كتابتها نثر جاك كيرواك المتوتّر، وبتعاقب أحداثها السريع وبإمكان قراءتها كسباق نحو الهاوية كتابات كين كيساي ورسائل نيل كاسادي. رواية سوداء وعنيفة يصوّر ستون فيها بمهارة نادرة عالمين عشية سقوطهما: سايغون خلال المرحلة الأخيرة من حرب فيتنام حيث يصف بدقّة وبرودة الانحراف الأخلاقي الذي كان قد بلغ ذروته، وأيضاً كولونيلات الجيش الأميركي المتغطرسين والعنيفين الذين لن يلبث شعورهم بالتفوق أن يتحطّم على سندان المقاومة الفيتنامية؛ ثم أميركا بالذات حيث تكشف الجروح العميقة والأضرار البالغة التي خلّفتها هذه الحرب داخل المجتمع، وأبرزها تحطّم قيَم الثقافة المضادة وتحوّلها إلى مجرّد شعارات هيبّية سطحية، مثل «السلام والمحبة» أو «مارسوا الحب لا الحرب».
لكن قيمة الرواية لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضاً في عملية تشييدها المتينة وفي استعانة ستون داخلها بعناصر وتقنيات سردية تبدو للوهلة الأولى غير ذي بال، قبل أن يتبيّن لنا دورها المهم في شدّ انتباهنا إلى القصة المسرودة وتعزيز حيويتها. وتكمن أيضاً في اللغة المسنونة تارةً والباردة تارةً أخرى التي شحذها الكاتب لها وتسمح لقارئها بالانزلاق تحت جلد شخصياتها الرئيسة وفهم محنة كل منها من الداخل، وبالتالي بتلقّي على أفضل وجه رسائل ستون العديدة التي يسيّرها عبر مُعاش هذه الشخصيات، وأبرزها ضرورة التوقف عن الترويج لـ «فضائل» الكحول والمخدرات ذات النتائج المدمّرة على الفرد الذي يدمن عليها، وضرورة العودة إلى خطّ سلوكٍ توجّهه قيَم أخلاقية كستها الثقافة المضادة بسلبية جائرة.
يبقى أن نشير إلى أن العنوان الفرنسي للرواية يحمل معنى مزدوجاً، وبالتالي يلخّص جيداً مضمونها. فـ «خط الهروب» لا يستحضر فقط رحلة فرار مارج وهيكس من مطارديهما داخل أميركا، بل أيضاً خط الهيرويين الذي تحضّره معظم شخصيات الرواية من أجل استهلاكه والهروب من واقعها. أما العنوان الأصلي (Dog soldiers) فأراد ستون من خلاله التشديد على أن الحرب لا ترفع من شأن الرجال المشاركين فيها، بل تحوّلهم إلى كلاب، مطيعة أو مسعورة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى