زين عبدالهادي .. المشي بتلكؤ فوق نار مقدسة

منير عتيبة

دين لصديقى الحبيب د. هيثم الحاج علي بأشياء كثيرة، لعل من أهمها أنه عرفني بمبدع أصبح من أصدقائي المقربين فيما بعد هو الدكتور زين عبدالهادي، كان ذلك في أكتوبر/تشرين الأول 2009 خلال مؤتمر الإسكندرية الأول للثقافة الرقمية.

اكتشفت إنسانا على درجة هائلة من الوعي والانفتاح العقلي والتواضع، ثم اكتشفت مبدعا من طراز متميز عندما قرأت روايته “دماء أبوللو”. وعندما صدرت تحفته “أسد قصر النيل” لم أمنع نفسي من الكتابة عنها، وأشاد هو في حواراته الصحفية بقراءتي للرواية، تابعت عن قرب التجربة القصيرة لزين عبدالهادي في دار الكتب، كنت أرى أسلوب تفكير الرجل، وحماسه، وقدراته الإدارية، فأتوقع أن يكون وزير الثقافة القادم (!).. لم أكن أعرف أن الثورة لم تتحقق بعد لدرجة أن يكون الرجل المناسب في المكان المناسب!

الحوار مع د. زين عبدالهادي ممتع جدا، لكنه مقلق أيضا، فهو طوال الوقت حريص على حرث الأدمغة ليعيد بذرها علها تثمر ما ينفع الناس، وهو حريص كأكاديمي ومبدع أن يكسر ما اعتدنا عليه حتى أصبح راسخا كاليقين، ليفتته ويوضح حقيقته، ليضع أعيننا على الحقيقة الفعلية التي نعيشها، وذلك بغرض القفز إلى مستقبل ظللنا لعقود نتقدم إليه بأقدام تتحرك إلى الخلف لا الأمام!

د. زين محمد عبدالهادي بورسعيدي من مواليد المنوفية في ديسمبر/كانون الأول 1956 لظروف التهجير أثناء حرب 56، هو أكاديمي له العديد من الدراسات في علم المعلومات التي حصل على رسالة الدكتوراه فيه، كما أصدر عددا من الأعمال الروائية مثل: المواسم، التساهيل في نزع الهلاهيل، مرح الفئران، دماء أبوللو، أسد قصر النيل، إضافة إلى عشرات القصص القصيرة التي لم يجمعها في كتاب بعد.

* أنت سواحلي من بورسعيد، عروس البحر بالنسبة لك هي النداهة بالنسبة لريفي مثلي، هي الكتابة لنا جميعا، كيف سحرتك، ندهتك، وكيف سرت معها، متى تأتيك، ومتى تتخلى عنك، وكيف تصف العلاقة بينكما؟

ـ أحمل قلبا مقسوما لنصفين، أحدهما يتعلق بتلك المدينة المتوسطية والآخر يتعلق بالقاهرة، لكن امتزاجي الأكبر في الطفولة كان بعروس البحر المسماة قسرا بورسعيد، فاسم بورسعيد لم يختره المصريون، وانما اختارته لجنة من عدة دول، ومع ذلك فقد أحببت اسمها، وهي ليست مكانا، وانما هي كل أحلامي القديمة، كنت أنتظر أن أصبح صيادا للسمك أو موظفا في هيئة قناة السويس، أو عاملا في مصنع الغزل والنسيج هناك، أو فلاحا، أو على أكثر تقدير بائعا للصحف والجرائد.

خروجي منذ عام 1967، صنع مني كائنا آخر، فبحثي الدائم عن جذوري القديمة دفعني للقراءة، والقراءة كما تعلم تعني فك الرموز، كنت أحاول فك شفرات علاقتي ببورسعيد، كانت دائما بورسعيد هي الحاضرة، لكن لأن طفولتي بأكملها وجزء من مراهقتي المبكرة عشتها كلها ببورسعيد، فقد دفعني ذلك إلى الخلط بين الحقيقة والخيال في سينماتها وحدائقها وبحرها، في مراكب الصيد وفي السفن العابرة للقناة، في مطاردة الدلافين في البحر، في مغامرات الطفولة التي كانت ثرية إلى الدرجة التي أحتاج معها إلى عشرات الكتب لأفرغها فيها.

لم أفرغ بعد من كتابتي عنها، التي صببت جزءا منها في روايتي “دماء أبوللو”، وأنتظر أن أكتب الجزء الثاني عقب انتهائي من روايتي التي أكتبها الآن، بورسعيد لا تكف عن مناداتي، ولا أكف عن الذهاب إليها، وغالبا ما أذهب دون أن أقول لأحد أني ذاهب، فهذا إفشاء لسر علاقتي بها، والمحبون لا يفشون أسرارا، هذا الحنين للكتابة عن بورسعيد، يدفعني دائما لسؤال غامض، هذا السؤال الغامض يتجلى بغموض أكبر في إجاباتي في روايتي التي أشرت إليها سابقا، فالمكان الذي يموت، لا يمكنك أن تقف فوقه وتلقي بعض التعاويذ، فالمكان إحساس ورمز وعقيدة داخلية.

هذه هي علاقتي الحقيقية ببورسعيد، علاقة ملتبسة تماما، شاهدت هناك الحياة، وشاهدت الموت، شاهدت الحب، وشاهدت براءة تقتل وتنتهي، شاهدت كل الآلهة التي قرأت عنها في الأساطير، ولي بها علاقة ما بشكل أو بآخر، وشاهدت ميلاد الإنسان الجديد، الذي يخلق عالما يواجه به عوالم الآلهة القديمة، شاهدت النحت على الرمال لرموز وأشكال لم يرسمها إنسان من قبل، ومازالت محفورة داخلي، أتذكرها جيدا، وأتذكر من رسمها، وأتذكر ضباب الشتاء فيها، حين تتجسد كل خيالاتي في شوارعها وعلى وقع أقدامي الصغيرة في الضباب على حجارة الشارع السوداء، مازلت أسمع آهات بورسعيد.

• تشغلك قضايا كثيرة كمبدع لعل أبرزها الشكل الأدبى الذي تصوغ فيه إنتاجك، لذلك نجدك تسعى للتجريب في كل عمل جديد حتى وصلت إلى حافة مغامرة التجريب في الرواية بروايتك “أسد قصر النيل”؟

ـ مسألة الشكل الأدبي تبدو قاتلة لأي عمل أدبي الآن.. فإن أخطأت فإنك تعرض نفسك لجحيم من النقاد واتهامات لا تعد ولا تحصى.. أو الأبسط أن يتجاهلوك على أساس أنك تكتب في كوكب آخر.. الحقيقة هناك تجربة أمارسها مع بعض النقاد من الأصدقاء في الكتابة والنقد معا.. هل يمكن لنا أن نقدم رواية جديدة وفي نفس الوقت نقدم شكلا من أشكال النقد الجديد.. ربما انتهيت في “أسد قصر النيل” على الرغم من أنها لم تعجب أكبر النقاد في مصر تحت أي مستوى.. لكنها على أية حال تعجبني وأعجبت الكثيرين من كبار القراء على الناحية الأخرى، كنت أعلم ذلك جيدا ومع ذلك خضته.

تجربتي في “دماء أبوللو” كانت جيدة جدا.. على المستوى التجريبي والإبداعي، ومن هنا أعتقد أن رواياتي القادمة يمكنها أن تحدث الأثر الذي أسعى نحوه.. دعني أفترض بعض الفرضيات التي يمكن أن تساعد على قراءة ما أقوم به. لدينا في الرواية ما يعرف بالضرورة الفنية، بمعنى أنه لا يمكنك أن تضع حدثا أو شخصا أو حتى كلمة في العمل دون أن لا يكون لكل ذلك ضرورة فنية، وعليك أن تكتب دائما وأنت تضع نصب عينيك المدارس الفنية التي أنتجتها الرواية عبر عصور طويلة من التجريب.

وفي هذا الوقت الملتبس الذي يعيش فيه العالم كله موت ما بعد الحداثة ومخاض أفكار ومدارس جديدة للفن بشكل عام وللكتابة الروائية بشكل خاص، تظهر في العلم فكرة “الإنسانيون الجدد” الذين ينادون بتطبيق القوانين العلمية التي ظهرت في العلوم التطبيقية والفيزياء وغيرها في العلوم الاجتماعية والإنسانية والفن، وأخيرا التحقق من مفهوم الكتابة الروائية في ظروف وبيئات مختلفة، وعلى الرغم من ذلك فأنت تتمسك بمفهوم الإنسان بمعناه الشمولي العام وليس المواطن بمعناه الضيق، هذه هي الأفكار الثلاثة التي أعمل عليها في كتابة الرواية.

ما الذي يدفعني للتمسك بالرواية الكلاسيكية والرومانسية والواقعية الاشتراكية والواقعية الجديدة والواقعية السحرية، وتيار الوعي والتاريخية والبيوجرافية وغيرها من المدارس، أليس من الضرورة الفنية داخل العمل الروائي أنه يمكنك أن تستعين بأي مدرسة في الوقت المناسب، أليس من المناسب والعالم يتجه لعصر المعرفة أن تقدم أساطير جديدة للرواية، ألا تصلح قوانين الفيزياء للتطبيق في الرواية، ألا يمكننا التعامل مع واقعنا الاجتماعي والسياسي في مصر من خلال منظورات مختلفة يمكنها أن تصحح لنا رؤية ما يحدث ونعيد صياغته في روايات ذات طابع خاص.

يجرنا ذلك إلى مفهوم العمل الأدبي الذي غايته النهائية الكشف عن الجوهر الحقيقي للجمال، فيما يجب أن يتسم هذا العمل بهذا الغموض الهائل الذي ينتج متعة لا حدود لها، هذه هي القيمة الحقيقية للفن والإبداع، الغموض، واستمرارية تأويل العمل على أشكال مختلفة، هذه هي القدسية الحقيقية للرواية، الرواية التي تتناول البشر، البشر الذين يجب أن يكونوا غامضين مقدسين، جمالهم لا حدود له، كيف يمكنك أن تفعل ذلك وأنت تحاول استخدام مدرسة فنية مصابة بتصلب الشرايين، من هنا تأتي فكرة كتابة الرواية في عصر انتهى فيه مفهوم موت ما بعد الحداثة بعد أن أخذ فترته الزمنية.

دعني أقول ذلك بكلمات أخرى، الرواية مجموعة من العناصر الكيميائية التي ترتبط ببعضها البعض، أو هي نتاج هذه العناصر، نتاج مدارس فنية مختلفة، أتت من التجارب الإنسانية في مجال السياسة على وجه التحديد، ما يجعلني أقول ذلك هو ما أشار إليه فرانسيس فوكوياما في نهاية التاريخ، أنت أمام هدف نهائي للنظم السياسية والاقتصادية يتعلق بالديمقراطية والليبرالية الجديدة والرأسمالية والسوق الحرة، ما الذي يمكن أن تقدمه كمدرسة جديدة في الرواية لمواجهة هذا النزوع الإنساني إلى الهدوء.

إن التغيرات السياسية والاقتصادية التي ستحدث بعد ذلك هى مجرد محاولات لإعادة ضبط وتوجيه اتجاهات هذه الرؤى النهائية ليس أكثر، السؤال الأفضل كيف ستتماشى الرواية والفن عموما مع ذلك، الفن هو البحث عن الجمال، إذن ستظل هذه قضية الفن، عليك إذن أن تقدم ذلك بشكل يضم كل هذه التجارب الإنسانية العميقة بعيدا عن فكرة الأيديولوجيا، وبعيدا عن فكرة المدرسية، التزامك الوحيد بالجمال والحرية ثم القيم الإنسانية العميقة، الخيال الأفضل، الرؤية الأفضل، البصيرة الأفضل، وهي كلمات كلها تحتاج لشروحات مطولة.

“أسد قصر النيل” كرواية ارتبطت بفكرة الفوضى، الفوضى الإنسانية لا تحل بمعادلات أسية أو جبرية، وإنما تحل بإبراز قيم المجتمع السائدة وتحديدها، ومحاولة فك شفراتها المستعصية، فأنت تعيش في مجتمعات تكونت فيها على مدار سنوات طويلة أفكار عدمية مثل اللامبالاة الإنسانية الكاملة، حاضر غير متحكم به على الإطلاق، غير متحكم به بأي شكل يؤدي إلى مستقبل من الفوضى الهائلة، الجمال في هذه الفوضى غامض، وتمتلئ الرواية بتفسيرات مباشرة تفسد معنى الغموض الفني لكنها تعبر في الوقت نفسه عن قيم المجتمع واتجاهاته، وقد تملكتني الحيرة طويلا، لكنني في النهاية أدركت أنني لا يمكن أن أفعل على هذا المستوى أفضل مما فعلت، حتى لو اختلفت مع نقاد الكرة الأرضية كلهم، هذه قناعاتي التي أدافع عنها. ومع ذلك فأنا أدرك جيدا ماذا يريد الفن أن يقدم، إنه موقف وجودي من الرواية ذاتها.

أنا لا أكتب للترجمة، ولا أكتب منمقا كلماتي، فوحشية المجتمع لا تقابله إلا رواية وحشية، هذه هي حالة التجريب في روايتي، ليست لدي أحداث لأحكيها، لدي انهيارات مستمرة في البنية المجتمعية، لدي عصر ينتهي بينما أقف على حافة عصر جديد يسمى “عصر المعلومات”، أفضل الروايات هي التي تتحدث فيها عن ما تعرفه، وليس عما تجهله.

أنا أستاذ لعلم المعلومات، مصري تعاني بلاده من كل الأمراض السياسية والتاريخية والاقتصادية والاجتماعية، هذا ماحاولت إبرازه مستخدما كثيرا من الطرق في الكتابة ومتعمدا كسرت كثيرا من تقاليد الرواية الراسخة، فإن أصبت فلي أجران، وإن أخطأت فلي أجر المحاولة.

• في المركز من عملك الإبداعى أرى قضيتين محوريتين، الهوية كفعل متحرك ومتنامٍ ومتغير، وليس ككيان متجمد الملامح، هوية الشخصية والمجتمع والوطن جميعا، وقضية الحرية لكل هؤلاء؟

ـ الهوية المصرية، هوية متغيرة وليست ثابتة، فهي حصيلة أمة يتجمع فيها العمال والفلاحون والبدو والشاطئيون، حصيلة امتداد تاريخي عريض، لا تواجهه إلا بعض الأمم القليلة التي تعيش على ظهر الكرة الأرضية، فإن وصفتها بأي عصر فأنت تقلل من قدرها، فتاريخك يضم الفرعوني والقبطي والإسلامي والاستعماري والملكي والجمهوري، وإن كنا نقول إننا دولة إسلامية فنحن نقول ذلك بناء على الكم المسلم من عدد السكان، وكذلك لارتباطنا بالشرق جغرافيا ولغويا ودينيا، ولكن جينات هؤلاء جميعا يختلط فيه الكثير من الأعراق والأمم والحضارات والعصور، والتنوير فيها مستمر شاء الظلاميون أم أبوا، ومن هنا تتبدى عبقرية الشخصية المصرية أو أزمتها الطاحنة، ومن هنا أيضا يظهر عبث التجارب التي مرت وستمر، تجربة محمد على لم تستمر، وتجربة عبدالناصر لم تستمر، وتجربة الإسلاميين لم تستمر، ولأسباب كثيرة لاداعي للخوض فيها، والتاريخ هو صاحب الكلمة الأخيرة.

إذن تصبح قضية الحرية أهم قضايا المجتمع المصري، ولكن الحرية لا ينظر إليها عامة الشعب لأنها لا تعنيهم الآن، لن يشعروا بوطأتها إلا إذا شبع الناس، وهذا هو سر خطاب ثورة 25 يناير، العيش (الخبز) أحد أهم أسباب الثورة، أتت في المقام الأول قبل الحرية وقبل العدالة الاجتماعية، الخبز، هذه هي مأساة مصر الحقيقية، ويساعد تفشي الجهل وغياب الثقافة على تعميق هذا المأزق، الثقافة التي ينظر إليها الإسلاميون بارتياب كبير، تلك النظرة التي تذكرك بتاريخ طويل من العداء للثقافة في التاريخ الإنساني الحديث، هذه نقطة مفصلية في المسألة، ولم تستطع الديكتاتوريات التي حصدت تاريخ مصر المعاصر أن تطمئن الناس أو تدفعهم للإيمان بها، لأنها لم تمنحهم الخبز، الأمان أعني هنا، ولذلك تظل قضية الحرية على المحك بالنسبة للمثقفين فقط وأبناء الطبقة المتوسطة التي تتآكل بسرعة البرق، فيسقطون في مستنقع الخبز.

• يظل الروائي روائيا في كل تفاصيل حياته، وكأنها لعنة تلتصق به، فكيف كانت صحبة الروائي زين عبدالهادي مع الأكاديمى زين عبدالهادي؟

ـ لا أجد صعوبة في الجمع بين شخصين داخلي، وهو نوع حميد للغاية الآن من انفصام الشخصية الذي يصيب الآخرين بدون سبب، لي مقولة أرددها لطلبتي في الجامعة “الثقافة مظلة العلم”، لا يمكنك أن تقدم علما جيدا دون ثقافة جيدة، فالعلم لا يصلح في بيئة رخوة وجاهلة، العلم يحتاج للثقافة، حتى يمكن أن يكون علما، فلا أتصور أن يكتب أحد العلماء كتابا متخصصا دون وعي بالعالم والبيئة والإنسان المحيط والتطورات السياسية والاجتماعية المختلفة حتى وهو يتحدث في التشريح أو الذرة أو الجينوم أو في كواكب خارج المجموعة الشمسية، لا يمكن أن يفعل ذلك دون وعي بالتاريخ والفلسفة والقيم الإنسانية الجميلة، لا يمكن أن يفعل ذلك دون وعي بالتاريخ الديني للإنسان على وجه الكرة الأرضية.

والعالم كالفنان هما ابنا التفاصيل الصغيرة، ابنا غير المدرك الذي يقع في منطقة ما وراء العادي، لأنهما ابنا الدهشة، يظل العالم عالما، والفنان فنانا، طالما لم يفقدا الدهشة، ولم يفقدا قدرتهما على الخيال، ولم يفقدا القدرة على قراءة التفاصيل الصغيرة للحياة.

من هنا لا أجد صعوبة مطلقة في الجمع بين الاثنين في بوتقة تركض فوق نار مقدسة تسمى عرضا “زين عبدالهادي”.

• ومع المسئول التكنوقراط زين عبدالهادي وبالذات في رئاستك لدار الكتب المصرية في فترة حرجة من تاريخ مصر وثورتها، حيث بكيت وأبكيتنا في مشهد شهير لن يُنسى بسهولة؟

ـ دار الكتب ستظل أعظم طموحاتي، لقد عملت في أماكن كثيرة من العالم، ونجحت فيها جميعا، لقد حاولت في دار الكتب أن أقدم نموذجا حضاريا يمكنه أن يصمد مع الوقت وتتحقق فيه فكرة المؤسسية بمعناها التنموي المستدام، لكني نسيت أمرين أولا أن هذه الفترة كانت تحت الحكم العسكري، ثانيا أنك يجب وأنت تقدم الخبز أن تعيد تشكيل الوعي وإعادة القيمة للإنسان، أربعة شهور ونصف لا يمكنها تقديم ذلك، لقد كنت أصارع الزمن والفاسدين القدامى بالهيئة، والموظفين الذين أفسدهم تماما النظام الإداري العقيم، تصارع الأوهام المترسخة في عمق الشخصية المصرية بأن كل وافد إليهم على رأس السلطة هو بالضرورة لص أتى يبحث عن مكاسب ويملأ صرر الفلوس.

لم أستطع أن أمحو هذه الفكرة، كنت أصارع على كل المستويات، لكني كنت وحيدا، في نفس الوقت الذي كنت أجاهد في سبيل تقديم النموذج، ولم أفلح، فهم يحتاجون إلى علاج طويل، وأتت الصدمة الأخيرة من الرئيس السابق للهيئة والذي أصبح وزيرا، كانت أول قراراته إزاحتي من المشهد لأسباب تخصه هو، وهو يمثل النموذج العظيم لشخصنة الدولة، لأسباب أعلنها في جلسات مغلقة ثبت عدم صدقها جميعا، لكني سأسكت عنه احتراما لأصدقائي وليس له.

الإدارة في مصر تعني شيئا واحدا، تظاهر فقط بأنك تعمل ولا تفعل شيئا آخر. إدارة هشة وضعيفة وعقيمة، وهذا أحد أسباب ديوننا التي تتراكم يوما بعد آخر، عبر سبعين عاما من الديكتاتورية وتولي أصحاب الولاء أصبح هذا هو حال الدولة وحال مواطنيها، أمراض مستمرة ستستمر بصورة أشد. أتوقف فقط عند مشهد حريق المجمع العلمي، لم يكن الأمر بالنسبة لي أكثر من مشهد هولاكو يحرق بيت الحكمة في بغداد، وأنا لا أريد استعادته.

• في كل أعمالك تقريبا روح ثورة ما سواء فى الشكل أو فى دواخل العمل والشخصيات، وهي الثورة التي تجلت في رواية “أسد قصر النيل”، حيث ثرت على الشكل الأدبي، وثرت على كل التاريخ الذي أدى إلى تكوين سلبيات الشخصية المصرية؟

ـ “أسد قصر النيل” عمل استغرق مني أربع سنوات كاملة، لإنتاج مجموعة من الأوراق الصادمة بكل المعاني، على مستوى الشكل وعلى مستوى اللغة وعلى مستوى الحدث، لأني كنت أحاول – ومازلت – أن أؤسس لمفهوم “فوضى الرواية”، في مواجهة “فوضى العالم” بشكل أكبر، وبشكل أضيق مجتمع الفوضى الذي تعيشه مصر، فالحدث لا ينمو بالمعنى المعروف فهو يتسرب في اتجاهات متفرقة، ليشكل عالما كاملا من الفوضى الهائلة، توازي فوضى المجتمع على مستوى المكان والإنسان والموضوع والزمن.

لذلك لجأت للتفكيك أحيانا في مفهوم الزمن، وفيما يتعلق بالشخصيات، فالشخصيات غير مرسومة وفق هذا النطاق الكلاسيكي الذي يعجب القارئ، إنها شخصيات غير كاملة، لا يمكنك أبدا الحكم عليها بشكل يقيني، على القارئ أن يشارك الكاتب هذه المهمة العسيرة، هنا استعرت من المدرسة التأثيرية في الفن التشكيلي أشياء محددة تتعلق برسم الشخصيات، على عينيك أن تكمل الشخصية واللوحة، وعلى القارئ أن يكمل بعقلة الرواية، الشخصية داخل الرواية، عليك أن تبتعد قليلا حتى تستطيع القراءة بشكل جيد.

هضم كل المدارس الفنية والخروج بشكل جديد يقتضي منك روح المغامرة الفنية، ويقتضي منك الدراسة الجيدة والواعية لهذه المدارس وأسبابها، فلا يمكنك الثورة على شيء لا تدركه، لكن من ناحية أخرى يمكنك خلق شيء لا تدركه بالضرورة من الوهلة الأولى.

الفوضوية التي تتسم بها الروح المصرية الآن، ليست عرضية، لأنها تكررت عبر التاريخ المصري القديم والوسيط والمعاصر، قد تبدو آخرها ما ذكره “المقريزي وابن تغربردي وابن إياس المصري” في “الشدة المستنصرية”، وتكررت في الأسرات الأخيرة في العصر الفرعوني، وأشير إلى ذلك في التوراة والقرآن فيما سمي بالسنين العجاف وهي غالبا ما تأتي نتيجة حكم غير واع، أو وال لامبالي، أو عدم وجود هدف، ونتيجة حتمية لجفاف النيل. وهذا العرض الذي يتكرر كل مجموعة عقود من السنين ناتج أساسا من غياب فكرة الإدارة والتخطيط وعدم توقع الحوادث الطارئات.

من هذه النقطة تحديدا بدأت كتابة الرواية، الشخصية الفوضوية لحاكم، تنتج شخصية فوضوية المحكوم وتؤسس شارعا فوضويا مما يؤدي لفوضى الوطن، هل يمكن أن أعالج ذلك برواية كلاسيكية منظمة، كان الشكل الفوضوي في مواجهة الوطن الفوضوى، فكسرت الإيهام بين الحقيقي والمتخيل، وضربت الغموض في مقتل، وارتفعت بالمباشرة أحيانا، في إطار من الوهم الكامل الذي يؤكد على عصر المعلومات الذي نعيشه.

وليس معنى ذلك أنه ليست هناك قوانين تحكم الرواية لأنها في النهاية عمل فنيا، لكني لا أكشف عن أسرار روايتي بشكل مجاني، د. ثائر العذاري أحد النقاد العراقيين فعل ذلك بامتياز حين كتب عن الرواية، وفعل ذلك إلى حد ما مجموعة من النقاد المصريين، لكنك تشعر بأن هناك كسلا نقديا، بمعنى أن الكثيرين يريدون البحث عن مدرسة يعرفونها لتطبيق ما يعرفونه على نص جاهز متسق مع أفكارهم، وأعدك أنني لن أفعل ذلك مطلقا.

• لا يمكن أن نفوت هذه الفرصة دون أن نسأل عن رؤيتك لدور المثقف المصري والعربي في ثورات الربيع العربي؟ وكيف تصف، كمبدع، ما آلت إليه ثورات الربيع العربي؟ وما شكل المستقبل الذي تراه بناء على ذلك؟

ـ الثورات العربية في مصر وتونس تعرضت لهزيمة بشكل أو بآخر، وقامت ليبيا بتسديد فاتورة الغرب الذي قتلته الأزمة المالية الطاحنة بحوالي 500 مليار دولار، دفعنا نحن وتونس الفاتورة غير المرئية التي ليس لها قيمة.

يحاول المثقفون المصريون الآن العودة بالثورة إلى مجراها الطبيعي. الإشكالية في المواطن الآن، على المثقف أن يقدم مادته الفنية وروحه وقودا للثورة، كما يفعل المثقف المصري الآن في مواجهة الهجمة التي تتعرض لها الثقافة المصرية.

المستقبل. لا أعلم.. لأنه سيتوقف على قدرة المثقفين على المواجهة ومدى قدرتهم على الصمود، من ناحية أخرى توجهات الشعب المصري التي لا يمكنني التيقن منها في تلك اللحظة، عليه أن يحدد جيدا ماذا يريد، وعلى المثقفين أن يساعدوه في ذلك.

من سيصدق الشعب المصري، من يحدثونه عن الجنة وبأنهم ممثلو الله على الأرض، أم سيصدق من تركوه سنينا طويلة دون دعم يذكر، كان الجميع منشغلا فيه بالحصول على المكاسب، أم سيصدق بعض الكتاب والمبدعين لم يشعر هو بإبداعهم، مشكلتنا في مصر ليست الطبقة المتوسطة، لأنها وقود الثورة دائما، المشكلة في المهمشين والبسطاء الذين عليهم أن يحددوا موقفهم من الثورة جيدا، وعلى من سيكسب معركة تحديد المصير الأخيرة أن يقدم لهؤلاء كل شيء وإلا عليه أن ينتظر المحرقة.

المستقبل مضيء وممتليء بالأمل رغم كل شيء، التاريخ يقول ذلك، والمعرفة تقول ذلك، والله يذكر لنا ذلك في كل كتبه السماوية.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى