‘مريم’ .. أيتها الفلسطينية الضائعة

أحمد فضل شبلول

هذه رواية غير تقليدية وجريئة في تناولها للعلاقة الرمزية بين مصر وفلسطين بعد ثورة 25 يناير من خلال أبطالها: عمر سليم رئيس تحرير مجلة “ألوان”، وصديقه أدهم رجل الأعمال ورئيس مجلس إدارة المجلة، ومريم الفتاة الفلسطينية المنقسمة بين مصر وفلسطين كون أمها مصرية وأبوها فلسطيني، إنها فتاة عربية “كانت ثمرة حب لأب فلسطيني مناضل وأم سكندرية”.

وتصفعنا عبارة “يا أيتها الفلسطينية الضائعة” في بداية الرواية لتؤكد على أننا أمام عمل به الكثير من الأحداث والوقائع الجريئة وغير المتوقعة.

وقد استطاع الروائي السكندري شريف محي الدين إبراهيم أن يأخذنا في دروب ودهاليز العلاقة بين شخوصها سواء على المستوى النفسي أو المستوى الرمزي وأيضا الواقعي.

فرجل الأعمال أدهم يتلاعب بالجميع؛ بصديقه عمر، وزوجته علياء كاظم، وعشيقته مريم، وسوف يُقتل في نهاية الرواية على يد الفلسطيني جاسر عرفات زوج مريم. وجاء في خبر مقتله: “مقتل أدهم بأيدي بعض العناصر الإرهابية التي ولّت هاربة”.

تجسد الرواية تلك العلاقة المتوترة بين بعض المصريين وبعض الفلسطينيين، بعد ثورة 25 يناير من خلال الحوار الذي يديره الكاتب بذكاء وحنكة، وخاصة ما جاء على لسان جاسر عرفات بعد إطلاقه النار على عمر سليم قائلا: لقد ماتت أسطورتكم أيها المصريون.

ـ أية أسطورة؟

ـ أسطورة الزعامة والقيادة.

وعندما تحاول مريم إيقاف نزيف دم عمر يلطمها جاسر على وجهها صائحا:

ـ الدم المصري أغلى عندك من دمائنا؟

الرواية تواكب اللحظات الراهنة في عمر الأمة العربية، لحظات التفسخ والتشرذم والانقسام والمكائد السياسية، وهنا يكمن سر أهميتها وتدفقها وحيويتها. ولعل عتبة “الغلاف” تؤكد هذا المعنى، حيث نرى قلبا يجمع خريطة الوطن العربي، ولكنه مشطور إلى نصفين، النصف الأيمن يمثل المشرق العربي من الخليج إلى جزء من ليبيا، والنصف الأخر من القلب المنشطر لا وجود لخريطته ويمثل الجزء الآخر من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، مع وجود باقة ورود صفراء أسفل يسار الغلاف. وقد يعبر اللون الأصفر عن الغيرة، ولكن يقال إيضا إن الورود الصفراء هي الزينة المثلى لجلسة مع الأصدقاء، حيث ترفع المعنويات وترسل رسالة عامة بالسعادة. ولكن هذا المعنى الأخير لم نجده في عالم الرواية. وبعامة فإنه على الرغم من بساطة الرسم بل سذاجته، إلا أنه يعبر عن فكرة التشرذم والانقسام.

الرواية تنهض على بناء روائي يعتمد على المذكرات أو الخطابات التي يكتبها عمر سليم لمريم، وكأن كل الأحداث ما هي إلا لحظات استرجاع أو استدعاء لماض قريب جدا.

ويذكرني هذا البناء ببناء فيلم “رسالة من امرأة مجهولة” بطولة الفنان فريد الأطرش والممثلة لبني عبدالعزيز من إخراج صلاح أبوسيف، إنتاج 1962. يعتمد الفيلم على الرسالة الطويلة التي أرسلتها آمال للمطرب أحمد سامح، تكشف فيه سر العلاقة الآثمة التي أثمرت عن ولادة طفل، بينما العشيق نسي تماما تلك العلاقة، فتذكّره آمال بكل ما جرى، من خلال تلك الرسالة الطويلة.

إن عمر سليم يذكّر مريم بكل ما حدث بينهما في ستة وأربعين فصلا قصيرا، هي كل فصول الرواية التي جاءت في 160 صفحة، مفسرا وشارحا ومعللا ومصوّرا. إنه يكشف عن أسرار غرامه بمريم رغم تعدد علاقتها وعدم وضوحها معه، ونقاشها البيزنطي الذي لا يخرج منه بطائل، فمرة هو الحبيب ومرة هو الصديق، ومرة هو لا شيء بالنسبة لها.

“ـ مريم أنا أريد أن أتزوجك.

لبرهة تجمدتْ كل ملامحك ..

ـ هل لا زلتَ تحسب نفسك خائنا لصديقك أدهم؟

صدمني سؤالك، وكأنك لا زلتِ تواصلين هوايتك المفضلة معي في تعريتي وتجريدي من ملابسي”. (ص 103).

مريم غريب العلي (وللاسم دلالته الفنية) الفنانة التشكيلية أو الرسامة نصف الفلسطينية ونصف المصرية شخصية مزاجية للغاية، تصادق عمر سليم وتعشق أدهم وتتزوج جاسر عرفات، وتتسبب في النهاية في اغتيال عشيقها، ومحاولة اغتيال صديقها.

تدور أحداث الرواية في الإسكندرية، ولكن المكان هنا فضاء أو رمز لمصر كلها، حيث لا يوجد في الإسكندرية ـ كمكان واقعي متعين ـ تلك المجلة ذائعة الصيت، ولا تلك المحطة التلفزيونية الفضائية واسعة الانتشار على مستوى الوطن العربي. وإن كان هذا حلما يحلم به أبناؤها وكتَّابها ومثقفوها وفنانوها، ولكن لا بأس فمن حق المؤلف أن يختار المكان الذي تدور فيه أحداث روايته، وأن تلعب أحلامه ومخيلته وتدور وتحوم حول المكان ليخلق أسطورته، أو يؤسطر هذا المكان. فليكن في الإسكندرية هذه المجلة وتلك القناة الفضائية الشهيرة.

يكثر الجدل العاطفي عن مريم بين عمر وأدهم، بينما يكثر الجدل السياسي بين مريم وعمر سليم، للدرجة التي يصل الجدل فيها إلى قوله: “كيف وصلتِ إلى هذه النقطة التي تضعين فيها مصر في كفة وحبَّك لي في الكفة الأخرى”. وذلك بعد أن قالت له: “إذا كنت حبيبتك بالفعل كما تدعي فأنا وطنك الحقيقي”؟ ثم ترد بقولها: “ماذا قدمتْ مصر لنا، بل لكَ أنت؟”.

هكذا يمزج السارد بين الحوار العاطفي الملتهب والحوار السياسي الساخن، ولكنه يعترف أنه لا يستطيع العيش بدونها، إنه اعتراف رمزي على قوة العلاقة بين مصر وفلسطين، وأن أحدهما لا يمكن العيش بدون الآخر مهما حدث من أحداث وتلاعب وخيانات وقرارات أممية، وانتكاسات سياسية وعسكرية قد تكون مؤقتة.

لذا نرى السارد يتساءل” أهي قصة حب أم قصة وطن أم أنها قصة الحياة نفسها؟!” ص 149.

اعتمدت لغة الرواية على الأفعال الماضية، وهو ما يناسب اختيار السارد للقالب الذي وضع فيه روايته وهو المذكرات والخطابات، فكان من الطبيعي أن يكون السرد في معظمه بلغة الماضي، وليس بلغة الحاضر أو المستقبل.

يكتب عمر سليم في مذكراته عن مريم قائلا: “تشاغلتُ عنك متجاهلا نداء الأنثى للرجل، وانهمكتُ في عملي كرئيس تحرير لمجلة ألوان … تجاهلتُكِ إلى حد الفظاظة، ولفظتُكِ بقسوة ليست في طبعي .. الخ” ص 11.

عتبة الرواية الأولى هي العنوان “مريم” يطرح علينا العديد من الأسئلة قبل الولوج داخلها، فمن هي “مريم” هل هي السيدة مريم العذراء، أم مريم المجدلية، أم مريم أخت النبيين موسى وهارون؟ ومريم أيضا اسم لزهرة مسك الرُّوم في اللغة الفارسيّة.

يشير السيميائيون إلى أن العنوان “يعد عنصراً جوهرياً في مكونات النص وبؤرة دلالية قد تكون مفتاحاً سحرياً لولوج أغوار النص العميقة”. ومع الدخول إلى عالم الرواية نكتشف أنها مريم غريب العلي الفلسطينية المصرية، الفنانة التشكيلية والتي تعد هي محور العمل ومرتكزه الأساسي، فالكل يدور حول مريم، والمذكرات والخطابات كلها موجهة لها.

وأرى أن رواية “مريم” تعد من روايات السيرة الذاتية حيث يقوم الراوي أو السارد برواية أحداث حياته من خلال تقنية روائية ما أو أسلوبية خاصة، كانت هنا تقنية المذكرات والخطابات، وليس شرطا أن تكون السيرة الذاتية هي سيرة الكاتب نفسه (شريف محي الدين هنا) ولكن قد تكون الرواية السيرية في “مريم” هي رواية السارد عمر سليم.

الرواية تسير في ثلاثة مناحي أو خطوط، الخط الأول العلاقات الغرامية، والخط الثاني العلاقات أو الآراء السياسية، والخط الثالث العلاقات الصحفية والإعلامية.

وربما ألمحنا إلى الخطين الأولين في السطور السابقة، ويكشف الخط الثالث بطريقة مهنية عن كيفية إدارة مجلة واسعة الانتشار وعلاقات العاملين بها ببعضهم البعض وعلاقتهم بمجلس إدارتها، واختلاف الانتماءات السياسية لكل منهم، فهناك مدير التحرير الأخواني ممدوح عاكف (وللاسم أيضا دلالته) الذي يصبح رئيسا لتحرير المجلة، بعد انتقال عمر لرئاسة المحطة الفضائية، ولنا أن نتخيل مدى الجدل الذي يمكن أن يثور بين إخواني وليبرالي يعملان في مجال إعلامي واحد بل في مكان واحد، ورأي كل منهما في ثورة 30 يونيو على سبيل المثال.

وقد نجح الكاتب في إثارة هذه النقطة، وفي عرض آراء كل منهما، ونقل وجهة نظريهما فيما يدور من أحداث في اللحظات الراهنة، خاصة بعد عودة عمر سليم لرئاسة مجلس إدارة المجلة، إثر اغتيال صديقه أدهم، وطلب زوجته علياء (التي لم تكن على وفاق مع زوجها الراحل على طول الرواية وطلب الطلاق أكثر من مرة) وطلب أبيها عودة عمر حتى يحافظ على كيان المجلة ومصالح الأسرة التي تركها القتيل دون أن يعرف أحد إدارتها سواه.

وفي الشق الإعلامي بالرواية نرى صعود قناة فضائية تملكها الممثلة الشهيرة ليلى سمير التي تختار عمر سليم لإدارتها فيضع شروطا صعبة علّ صديقته القديمة وحبه الأول ترفضها، ولكنه يفاجأ بقبول كل شروطه لثقتها فيه ثقة مطلقة وأنه قادر باسمه الكبير وكفاءته وموهبته الصحفية والإعلامية أن يدير القناة بنجاح كبير.

وعندما يضطر لترك القناة، يختار سامي مراد لإدارتها، ولسامي هذا قصة غريبة داخل الرواية، فهو صيدلي مزيف يملك سلسلة صيدليات باسمه، دون أن يكون خريجا في كلية الصيدلة، ولكنه مارس المهنة بالمصادفة، وقام بتزوير شهادة تخرج في كلية الصيدلة، وهو في الأصل خريج صحافة وإعلام، وعندما واتته الفرصة الحقيقية في القناة الفضائية تألق فيها، وقدم برامج صحية، انعكس نجاحها على زيادة نجاح وانتشار صيدلياته.

نلاحظ أن الكل يكذب على الكل، والكل يخون الكل، والفتاة زيزي سكرتيرة تحرير المجلة، تحمل من أدهم أكثر من مرة دون أن يتزوجا، فتضطر لإسقاط الحمل وإجهاض نفسها، وفي الحمل الأخير يحذرها الطبيب أن هذه هي الفرصة الأخيرة، إذا أجهضت نفسها فلن تحمل بعد ذلك ولن تصبح أما، وعند إصابتها بنزيف حاد يتصل والدها بعمر سليم، فيأتي ويتم نقلها للمستشفى، ويعتقد الطبيب أن عمر هو زوجها ولا ينكر الأخير أمام هذا الموقف الصعب، لنكتشف بعد ذلك أن الأب الحقيقي للمولود هو أدهم الذي كان على علاقة جنسية مستمرة مع زيزي التي وافقت على ذلك لتضمن وظيفتها ومرتبها حتى تستطيع العيش مع والدها المريض الذي لا يكفي معاشه لشراء الأدوية.

ثم تكون المفاجأة الأخرى بزواج ممدوح عاكف (الأخواني) من زيزي، ربما دون أن يعرف بعلاقتها بأدهم، أو يعرف ولكنه يتغاضى لأسباب شتى منها ضمان استمراره رئيسا لتحرير المجلة.

الرواية تحمل الكثير من المفاجآت والخيانات والفضائح سواء السياسية أو العاطفية، أو الجنسية، وأيضا الإعلامية. وأهم ميزة تحسب لها أنها تتحدث عن “الآن” الذي نراه كلنا ويعيشه كلنا، ويلمسه كلنا، ولكن من يستطيع أن يجسد هذا “الآن” في عمل روائي لافت؟ لقد استطاع شريف محي الدين ذلك في روايته الخامسة “مريم”، حيث سبق أن أصدر رواياته: “طائر على صدر امرأة” 2000، و”أصحاب الملامح الباهتة” 2001، و”الملك” 2007، وخارج الحدود” 2010 .

وكما تبدأ رواية “مريم” في صفحتها الأولى بعبارة “يا أيتها الفلسطينية الضائعة”، تنتهي أيضا في صفحتها الأخيرة بالعبارة نفسها “يا أيتها الفلسطينية الضائعة .. هل يوما ستعودين إليّ بكل أشجانك، بكل غرورك وغموضك وحيرتك المستمرة، أيتها الأنيقة المغرية دائما، هل يمكن لي أن أَشفى منك؟!

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى