بعلبك بين زمنين.. المدينة والناس والمهرجان

محمد شرف

ستون سنة مرّت على مهرجانات بعلبك.. ستون سنة عمل، إذ كانت توقفت لأعوام طويلة خلال الحرب. تغيّرت أشياء كثيرة في المدينة والأحوال، مثلما تغيّرت العروض التي تقدّم. وحدها الأعمدة لا تزال شامخة تذكر بأزمان عديدة مرّت على مدينة الشمس. لهذا، هل تبدو مهرجانات بعلبك الدولية على تماس مع أهل المنطقة، أم أنها مهرجانات لمن يأتي من البعيد؟ سؤال يحاول أن يعيد قراءة ذلك من منطلق ذاتي.
أكثر ما يذكّرنا بأن مهرجاناً يُقام في «الدار»، قوى الأمن المنتشرة على الطرقات وعند مفاصلها. في الأيام العادية لا نلحظ وجودها؛ اللهم إلاّ بعد وقوع «خناق» بين أفراد على أفضلية المرور، قد ينتهي بسرعة، ومن دون رصاص، أو تبقى آثاره في النفوس بانتظار مناسبة أخرى للتقاتل. ينشغل رجال الأمن بهمومهم، كما ينشغل تجار المدينة، أصحاب حوانيتها، بإحصاء الأيام العشرة الأولى من الشهر، إذ تفرغ بعدها جيوب المواطنين، وتفرغ معها حوانيتهم، بعدما تخفّ الحركة وتخفّ معها البركة، الخفيفة أصلاً.
لم يعُد البائعون يحسبون للمهرجان حساباً، إذا ما استثنينا مقاهي عدة تقع على الطريق المؤدي إلى مدخل الهياكل. يعتكف القادمون عن سلوك طريق أخرى، وليس من يشجّعهم على القيام بذلك، وفي حال حضور التشجيع يحضر قبله حذر لا يستند دائماً إلى أسباب مقنعة. حادث أمني واحد في المدينة، وفي جوارها غالباً، يكفي لإطلاق موجة حذر تمتد شهراً على الأقل، يلتزم بها من قرّر زيارة المدينة. سكان بعلبك اعتادوا هذه الحال، كما اعتاد سكان بيروت، ذات يوم، خلال الحرب الأهلية، الجلوس والدردشة في مقهى بشارع مجاور للشارع الذي يقع فيه اشتباك. أكثر «المشاكل» التي تقع في المدينة لا يسقط فيها قتلى، ولا حتى جرحى، إطلاق الرصاص يتم في الهواء، فاحتساب نتائج الاشتباك واردة سلفاً، ما يمنع «القواص» بدافع القتل، ولا يُصَاب في هذه المعمعة إلاّ من تسقط عليه رصاصة أنهت رحلتها في الفضاء، وسقطت من أعالي السماء على رأس المغدور بفعل قدر سيئ.
كانت للمهرجان «رهجة» حين كانت بعلبك المدينة الوحيدة تقريباً في الوطن التي تقيم لجنة مهرجاناتها الفنية، وأُطلقت عليها، مذاك، صفة دولية، ما لا تطمح إليه مهرجانات اليوم المقامة في كل زاوية، بحيث صار عددها يقارب عدد شعر الرأس. اعترى الخجل المدن والبلدات العاجزة عن اللحاق بالموكب. مدينة طرابلس تصلح نموذجاً، نظراً لما سمعناه من بعض أهلها الغيارى، قبل أن تعود و «تستلحق حالها»، معلنة برنامجها، ومؤكدة أنها لن تكون بعيدة عن الموضة السائدة، فالعرس قائم والكل يودّ أن يؤدي رقصته. الظاهرة إيجابية في الأحوال كلها، وتؤكد مزايا الفرد اللبناني، القادر على النسيان وسرعة التكيّف والمثابرة، والساعي إلى فسحة من الراحة في وطن مُتخَم بالمشكلات والعراقيل.
نهار المدينة وليلها
كانت للمهرجان رهجة حين كانت أسواق بعلبك ومطاعمها تتناغم مع الأصوات الصادرة من داخل الهياكل، فتنتظر الزوّار وتلبّي طلباتهم، مهما كان حجمها. بعض مطاعم بعلبك مثل «مطعم العجمي» اكتسبت شهرتها بعدما كانت مقصداً لزوار المدينة. في أيامنا هذه يشكّل غروب الشمس نقطة نهاية اليوم لمعظم أصحاب الحوانيت، يُعلن عنه أذان المغرب الصادر عن عشرة جوامع موزّعة في أرجاء المدينة لا يتفق أي منها مع الآخر على توقيت الغروب، لكنها تتوافق على إعلان نهاية النشاط اليومي، الذي لا يتّخذ صفة النشاط إلاّ من خلال عملية فتح أبواب المحال صباحاً، وإغلاقها مساءً، أكثر من إمكان استقبال زبائن يتدلّلون على البائعين. لاحظنا، غير مرّة، أن بعض البائعين صاروا يستقبلون الزبائن بفتور، ومن دون ابتسامة، وكأن على الشاري الافتراضي أن يسترضي البائع وليس العكس. يُخيّل إلينا أن باعة كثيرين مصابون بالاكتئاب، كما العدد الوافر من سكان هذا الوطن، ولو أنه اكتئاب مقنّع وغير معترف به، ويختفي وراء عزة نفس وخجل يمنعان صاحبه من زيارة طبيب نفسي. تزيد من هذا الاكتئاب كثرة النداءات الصادرة من المآذن معلنة وفاة أحد سكان المدينة، وحتى أحد سكان القرى المجاورة. وبما أن عدد سكان المدينة ازداد كثيراً بفعل الهجرة المستفحلة من القرى، ازدادت حالات الموت بحيث لا يخلو أي يوم من إعلان وفاة شخص أو أكثر. قد لا يولي السامعون اهتماماً كبيراً برحيل من لا يعرفونه، أو لا تربطهم به صلات القربى، لكن مجرد سماع أن فلاناً قد انتقل إلى العالم الآخر يذكّر الجميع بأن هذا الاستحقاق، الذي لا مفرّ منه، آتٍ لا محالة.
ليل المهرجان يشبه غيره من الليالي بالنسبة لسكان المدينة. ينحصر النشاط في محيط الهياكل، ونتجنّب أن نقول «القلعة»، فهذه التسمية غير صحيحة. تحوّل المكان قلعة بعدما صار يحوطه سور بناه المماليك قديماً، وكرّسته مديرية الآثار حديثاً، إذ لم تشأ أن يبقى المكان سائباً ومفتوحاً لمن شاء. رجال الأمن يعزلون المكان في أيام المهرجانات، ويمنعون السيارات من المرور قربه. الاحتياطات مفهومة ومبررة في زمن الإرهاب المتنقل. يخضع القادمون لحضور الحفلات لتفتيش دقيق، يتكرر مرات ثلاث، وربما أكثر، قبل ولوجهم إلى المدارج، ما يجعلهم ينتظمون في صفوف طويلة، وليس من يتأفف من طول مدة الانتظار، فالروح الإنسانية أغلى من الوقت الضائع، والشعور بالأمان أفضل من الغرق في متاهات القلق والحذر.
تخفّ الحركة وتكاد تنعدم في السوق عند المساء، لتزداد في مكانين تفصل بينهما مئات الأمتار. ليل المهرجان من جهة الغرب، وليل المتنزهين من جهة الشرق. الضيوف قدموا ليشاهدوا مسرحية راقصة تحييها فرقة كركلا، فيها الكثير من الأزياء والألوان والرقص، والقليل من الارتباط بالواقع المعاش. تريد الخليقة أن تنسى الواقع القريب، فتقدّم لها فرقة كركلا حلماً من التاريخ في ثياب زاهية. في المقلب الآخر، الشرقي، يرتدي المتنزهون ثياباً زاهية بدورهم، وخصوصاً الإناث منهم، ويختاروا، أو يخترن أحد المقاهي الكثيرة الموزّعة حول مرجة رأس العين لقضاء ساعات السهرة، أو قسماً منها، يتفحّص بعضهم البعض الآخر، ويتجنّب الكل الإتيان بخطوة ناقصة من شأنها أن تتسبّب بحادث لا تُحمد عقباه.
الزهو والفخر، بالنسبة إلى الشباب، يتمثّل في نوعية السيارة وحداثتها أكثر من أي شيء آخر. نتعجّب لامتلاك بعضهم سيارات فخمة، ونحن جاهلون طبيعة عملهم، أو إذا كانوا يعملون أصلاً. المتنزهون في سياراتهم يسيرون بسرعات سلحفاتية، ويفوق عددهم عدد الجالسين في المقاهي أحياناً. يدورون بآلياتهم حول المنتزه مرات ومرات دون كلل. أتى انخفاض سعر البنزين ليزيد من زخم هذا الميل إلى الدوران ضمن زحمة سير فائضة، بحيث يسبق السائرون القلائل على أقدامهم أصحاب السيارات في إتمام مهمة «الطواف» حول المرجة. معظم المتمشّين ينشدون لياقة بدنيّة، من المفترض أن تُبعد عنهم شبح الإصابة بأمراض القلب، وما يتصل بها أو يتحدّر منها، لكن ما يمكن أن توفّره أشجار المنتزه من هواء نظيف يسمّمه الدخان الكثيف المنبعث من عوادم الحافلات. مع تقدّم ساعات الليل ينخفض عدد المتنزهين، ويخلو للمكان للشباب المتهوّر المولع بالـ «تشفيط»، ومن الممكن أن يترافق ذلك مع عرس يُقام في أحد المقاهي، فتصدح موسيقى راقصة صاخبة ممتزجة مع أصوات الإطارات المجنونة ودخانها، ويلعن المقيمون في المكان الساعة التي جعلتهم يبنون بيوتاً في المحلّة، على أرض تركها لهم أجدادهم، ضمن بقعة كانت تُعتبر في الماضي قبلة أصحاب المال والبورجوازية البعلبكية، القليلة العدد.
موسيقى المهرجان والذكريات
الأغاني المنبعثة من شبابيك السيارات المتجوّلة تشي بطبيعة الأذواق السائدة، وحتى بطبيعة السائقين أنفسهم. لن يذهب أحد من هؤلاء لسماع بوب جايمس كوارتيت أو ليزا سيموني، أو جوزيه فان دام، ممن يندرجون ضمن برنامج المهرجانات لهذا العام، المقامة داخل جدران هيكل باخوس، حيث الأمكنة قليلة العدد، بعكس الحفلات الأخرى المقامة على أدراجه الخارجية، حيث يتسع المكان لجمهور أكبر. لم تعد لجنة المهرجانات تطمح إلى إقامة حفلات على أدراج هيكل جوبيتير، كما يبدو، علماً أن المكان كبير ويتّسع لجمهور غفير، لكنه، وكما يُحتسب للأمر، قد لا يلبّي الدعوة، فيوقع المنظمين في خسارة مادية، ناهيك بما يتطلّبه القرار من شروط أمنية لا يود أحد أخذها على عاتقه. هذا المكان الفسيح شهد حضور «عمالقة» لبنانيين وعرب في فن الموسيقى والغناء رحل معظمهم، ومَن بقي منهم على قيد الحياة لم يعد يمتلك القدرة الجسدية على إحياء حفل يتطلّب جهداً زائداً. أسماء عالمية كبيرة مرّت على المكان أيضاً، وصار مرورها ذكرى تداعب مخيلة الأجيال السابقة التي عاشت «العصر الذهبي»، كما يتفق الجميع على تسميته.
لدى مشاهدتنا وسماعنا جان ميشال جار، منذ فترة ، وعلى أدراج هيكل باخوس تحديداً، عادت إلينا ذكريات كثيرة ترتبط بالمكان وبالمؤلف والموسيقى. لم يكن جان ميشال جار معروفاً كما يجب من مراهقي وشباب سبعينيات القرن المنصرم في المدينة. يعود الفضل في تعريف هواة الموسيقى بما يصنعه إلى شاب بعلبكي لم يتلق ثقافة أو دروساً موسيقية، لكنه كان يتمتع بأذن موسيقية فطرية، وبذوق موسيقي مكّناه من التفريق بين الجيد والأقل جودة في الموسيقى الغربية تحديداً، ولو أن خياراته ارتكزت على ميول شخصية نحو موسيقى البوب أكثر من سواها. كان علي الجمّال، وهذا اسمه، يذهب إلى بيروت عند «شاراد» في شارع جان دارك في الحمرا، ويعود من هناك حاملاً معه آخر منتجات موسيقى البوب، على اسطوانات «إل بي»، كما تسمّى أسطوانات الـ33 دورة. هكذا تعرّف الشباب البعلبكي على فريق «بينك فلويد» و «مودي بلوز»، و «سانتانا» من اللاتينيين، وأصحاب الموسيقى الإلكترونية مثل «تانجرين دريم» و «كرافتورك»، وأخيراً وليس آخراً جان ميشال جار، وخصوصاً عبر مقطوعته الشهيرة «أوكسجين».
هكذا، لم يغب عن بالنا علي الجمال لدى استماعنا جان ميشال جار ومشاهدته في أحضان الهياكل. كنا نتمنى أن يكون علي بيننا في الحفل، لكن الأقدار كان لها حساباتها الخاصة. إذ إن علياً كان تلقّى رصاصة في عنقه، في ظروف غامضة، قبيل منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وأُصيب على أثر ذلك بشلل نصفي منعه من متابعة عمله في محل الـ «فليبرز»، حيث كان يقوم أيضاً ببيع تسجيلات موسيقية لما كان يأتي به من إسطوانات. تدهورت أوضاع علي تدريجاً، بعدما تنكّر له الدهر، وأهمله أهله الذين تركوا لبنان، ليعيش وحيداً في غرفة أكثر من متواضعة تكرّم بها عليه أقرباؤه. صار بعد ذلك يتنقل في كرسي متحرك، ويقضي معظم أوقاته في سوق المدينة، في أمكنة محددة يركن فيها كرسيه، ولا يرفض الحسنة ممن يعطفون عليه. بقي على هذه الحال ما يزيد على ثلاثة عقود، إلى أن وافته المنيّة منذ حوالي العام.
حين يخطر علي في بالنا، لا نستطيع إلاّ أن نقيم صلة المشابهة بين مصيره ومصير الوطن ككل، وكأنه يمثّل صورة فردية لحالة جماعية، عناوينها الأساسية: الصدمة والانكسار والاعتلال والشلل، ومن ثم النهاية. نهاية نتلافاها جميعاً، ونؤخّر حدوثها بوسائل والتفافات وأسلحة لا ندري كم سيدوم مفعولها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى