عبر دائرة التلغراف ..للكاتب قيس مجيد المولى

خاص (الجسرة)

 

على نحو غريب بدأت العباراتُ المكتوبةُ على اللوح الفضيّ، والذي عثر عليه في المحلة التي رُقمت تواً من منطقة من مناطق بغداد. ولما تحقق الآثاري من مُشغلاتِ حروفَ ذلك اللوح وجده يعود لقبرِ رجلٍ يهودي كان قد دُفِنَ بعبارات

صوفية ، وبكوميديا مغرقة بالتواردات المائية، وحينَ أعاد تدقيق تلك العبارات من جديد وجدَ الدائرةَ التي وضعت على

أرض الماء والبكاء، وهناك خطوطٌ غير متوازية فَسّرَها الآثاري بأنها أولُ فيضانٍ لنهر الفرات، وكان جمعُ اليهود يستمعون إليه عبر دائرة التلغراف وينتظرون احتجاجًا غيبياً لمظلومية سبيهم البابلي أو تذكيراً ما بشلومو بن حسقيل كبير موظفي الجمارك والمكوس، والذي كان يحب الحلوى وصور أشجار الزيتون العالية، ولا يتردد أمام زملائه من المخمنين في دائرته أن يبدي امتعاضه من جورج أوراها كلما قرعَ الجرسَ الضخم للكنيسة الكاثوليكية، رغم أنه كان مطمئنًا لتلاوة البعض من أسفاره الخمسة، وخصوصا بعض مزامير داوود في المعمدانية التي تبرع بها المسيحيون لليهود، والتي تقع في زاوية من زوايا الكرادة الشرقية ليتخذوها لهم معبدا يهوديا ناهينَ بذلك ترحالهم الأسبوعي لمرقد ذي الكفل (حزقيال) أو إلى معبد التوراة في العشار. ولقد أنشئت فوق الأرض التي عثر فيها على اللوح الفضي دارٌ لأحد العراقيين والذي غادر البلاد مهاجراً لإحدى دولالخليج ، وحين صحا ضمير الآثاري بعد أن رأى ثبوتية العائدية في السجل العقاري أرسل اللوح الفضيّ لصاحب الدار، والذي درس اللغة العبرية في أحد أقسام كليات الجامعة في العاصمة، ومنذ دراسته تلك إلى هذا الحين كانت تشغله فكرة أن يُسَخر ما استطاع من تلك الإشارات والعلامات التي تزخر بها الكتب العبرية ليملأ العالم بالتراتيل، حين سيضيف إليها ما يستطيع جلاءه من حشايا ذلك اللوح، حيث لم يسعف الوقت العالم الآثاري بالكشف عن المزيد من تلك الدلالات

المرئية واللامرئية. كانت لدى الشاب المهاجر فكرة أن الأوهام أفضل من الحقائق، لأن الأوهام تزود المخيلة بطاقة منفلتة، وضرب لنفسه مثلاً وهو يحك بأحد أظفاره طارفَ اللوح الذي وصله توا فضرب مثلا بأسطورة عذراء الأوريناز وبنهاية أجمونت. وأمثلة أخرى وأخرى أسرعت بهِ لمعاينة ذلك اللوح في جلسته التي اختارها أمام المتحف الإسلامي الذي يطل على إحدى زوايا الخليج بمقربة من أم غويلينة، ورغم الطيف البعيد الذي ظهر مع الظلام فقد عثرَ على ما ذُكِرَ عن يوياتيم وخزائن بيت المال وعن مرض الهيضة الذي أكل ربع اليهود في بغداد، وكان يرى رموزاً أخرى عن الأشوريين والبابليين وعلامات الظهور للملك نبوخذ نصر، وهكذا تواردت قصص مشابهة أخرى أتت عليها الديانات الثلاث عُجنت هذه القصص في مخمورية ليالي بغداد عَجنتا قرنا الثور ومَن السّما بماء زمزم الذي يباع لأول مرة في عربة جوال لرجلٍ من الديانة الصابئة قدِمَ العاصمة من ميسان. أمام تلك العقائد تشكلت فرضيات منها من اتخذ موقفا شكياً عن طبيعة الكون ونظامه، بل امتد هذا الشك ليمس مركز الخلق وعُرضَ كل شيء للتسفيه ، وفرضيات وسطية أخرى تبنت أن كل شيء حدث نتيجة لسببية والذي تكوّنَ وذهب مكانُه في زمانه لا يمكن استعادته، وفرضيات أخرى إن الله ظاهرٌ للعيان فيجبعدم الاستمرار بالبحث عن الإله المجهول، وقطعًا فإن كل من

هؤلاء أنتجوا الأشياء الخاصة بهم واتخذوا مسمياتهم الأخلاقية في الإطار الذي تفوض به تلك الافتراضات بالحد

الأعلى الذي يسمح لمن يسمح بأقصى الرذيلة، وبالحد الدون للرضا من الكبت والفقر والعبودية وحتى الذلة والحرمان. ولا شك أن هناك من أراد أن يعرض العقائد بعينها للتخلص من الوقائع اللاحقة التي ستظهر على اللوح، أو التي يُستمع اليها عبر دائرة التلغراف، في الوقت الذي شُبِهّت الهجرةُ الجماعيةُ لليهود من بغداد في العام 1950 كهجرة المسلمين إلى الحبشة إلا أن الفارق بين الهجرتين كانت بوسائل النقل وبالكم والفارق الآخر الأكثر ديماغوجية كان هل بمشيئة المعلوم أم المجهول ، وهل كان للحصول على العجين والتمعن بأنهار اللبن والعسل؟أم التصديق على الليلة التي كانت أفضل الشهور؟ تذكرَ حين انتقل من أم غويلينية إلى المساحة المكانية الصغيرة قرب الشيراتون أن عضاته لا تقيه، وأنه لا يمكنه من استخدام القدر استخدامًا موفقًا حتى أمام السمكة التي نطت أمامه من الماء ، والثمرة الناضجة التي سقطت من الشجرة وكذلك خلف قرع الدفوف وراء المهاجرين من بلدانهم أمام كونية تريد بوسائلها اللامنطقية أن تُثبت أظفارها في أعناقنا، وهي تريد أن تكون أو لا تكون إن بقي ثابتها في خيارنا الأول، أو ظل متحولها في خيارنا الثاني ما دام التفكير مستمراً للبحث في الغيبيات.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى