كمال التاغوتي.. انقلاب المعنى بالتأويل

حسن نصور

من أوجهٍ متعددة، يتعامل الكـــاتب التونسيّ كمال التاغوتي، في إصـــداره «بؤس التأويل» (الفارابي، 2015) مع مفهوم «الجزاء الأخرويّ». «الجزاءُ» باعتباره مفهوماً متمفصلاً بين حدّين: الحدّ الذي يتأطّر به ضمن تشكيلة الخطاب العربي قبل الإســـلام بكافة دلالاته ومساحات انشغالاته الوجوديّة والانتربولوجية من جهة، وحّد الخطـــاب القرآني ذاته الذي أعـــاد بناء هذا المفهوم من ضمـــن المفاهـــيم المترسّبة في العقل الجاهلي إنّما، هذه المرّة، في سياقاته التوحيديّة الخاصة المتوثبة نحو المطلق.
«الجزاء»، بما هو انشغالٌ اتّسمت به الحياة الإنسانية منذ القدم، لا يعكس، في هذا الحيّز، إلا تناقض الكائن. إنّه ذلك النمط من السعي البشريّ إلى التعامل مع فكرة الموت/ الفساد، بطريقة أو بأخرى، بهدف ردم تلك المنطقة من الغموض الغائر في أعماق وجوده الذاتي. لا يقتصر الأمر إذن، في هذا المفهوم، على نمط معين من الديانات أو شكل محدّد من أشكال الاعتقاد القديمة دون غيرها، بل الأمر منوطٌ بوعي الإنسان واطراد تجاربه الحياتيّة على الأرض. نقصد بذلك خبراته وتصوراته الليتورجية المتراكمة أو بناءاته مصائرَ يسعى من خلالها لإملاء تلك المساحة من القصور والعجز أمام حقيقة ملمــــوسة هي الموت. نرى ذلك في تجارب حضارات قديمة اخترعت وشكلت أنماط فهـــمها الخاص لتلك المعضلة، تارة من خلال ابتكار شخوص تتوسل الخلود في صراعات مع الآلهة «ملحمة جلجامش»، وطوراً تؤبّد حضورها الارضي بمفاهيــم كالتناسخ «بوذا مثالاً» أو حضـور الأرواح الـــدائم بعد الموت على شكل هامات فوق القبور»عرب الـــجاهلية» أو حتى تصوّرات متفرّقة تؤسّس مفاهيم كالرجعة وما يقابل ذلك من الترادفات.
تجبير الخطاب
يضيء البحث، كما أسلفنا، على تفاصيل استثمارات الخطاب القرآنيّ في تصورات الجاهليين، بالتفصيل، بغية إعادة إدراجها ضمن نمطه التوحيديّ الخاص. وعلى عكس بعض الآراء، يرى الكاتب أنّ مفاهيم «الما – وراء» القرآنية لم تشكل قطيعة تامة مع أنماط جاهلية في تصور المفارق وتالياً مآلات الكائن الأخرويّة، بل إن النصّ القرآني قام بتأجيج وتجيير الخطاب القديم لصالح مطلقهِ الرساليّ الحاضر مخالفاً بذلك أنماطاً من التصورات المقيِّدة القاصرة عند عرب الجاهلية. تجييرٌ قد أنجز من خلال تعميق دلاليّ للغةِ العرب الفاتنة، تجاراً وقبائلَ غزو، ومن ثمّ إعادة قولبتها في فضاء يقطع مع أي دائرة قبْلية تربط مصير الفرد بالقبيلة أو الجماعة.
نقول إنّ الإنسان، في مجال من هذا النوع، يصـــير، ببعديه الاختباري والفرداني في اتصال مــباشر واختياريّ ضمن معيارية قيميّة تعيد تشكيل مفهوم الجزاء الأخرويّ على لبنةِ ثوابت تتـــبدّل فيها أنماط تصوراته وجوده الذاتيّ الموصـــول بالمطلق، ما يستلزم تغيراً أكيداً في نمـــط إنتاجه الدنيويّ معرفياً وأخلاقياً.
بساطة المفهوم
إذن، يؤسس مفهومٌ ثابت نسبياً وبسيط كمفهوم «الجزاء القرآني» لإنسان حرّ، بحدود، وحيويّ على قاعدة تحقق قدراً من المسؤولية الذاتية عن الفعل (ولا تزر وازرة وزر أخرى) مقابل ثواب وعقاب آجلين يوم القيامة أو عاجلين، شرعاً، في الدنيا. إنّها المسؤولية التي تعكس شعوراً عميقاً لدى الفرد القرآنيّ باتصاله علوياً دون الحاجة إلى خيمة القبيلة التقليدية وتأسيساتها الجمعية. تلك الحيوية التي ذابت، بطبيعة الحال، خلال فترة وجيزة ضمن الصراع الذي خلخل بساطة المفهوم لصالح نشوء جماعات دينية تأويلية في الجسم الوليد لغوياً/ تفسيرياً/ كلاميّاً. إنها جماعات أدمجت الفرد، في العمق، بالتعقيدات الأصلية التي ظلت تُفرغ النصّ القرآني الناجز عكسياً طيلة قرون من مقصده الإنسانيّ.
وإذا صحّ التعبير، لقد انقلب المعنى على ذاته بآليات صراع أبعدت الفرد بما هو إمكانٌ عقلانيّ حرٌّ صوب مساحة ضيّقه من انعدام الفعل الاختياري لصالح ربط هذا الفرد بوساطات لا تعدو كونها تجليات للإله على شاكلة قوانين شرعية صارمة وعقوبات أو غرائزية عاجلة تدخل في نسقية التحريم والتحليل، ويكون المؤمن النمطيّ فيها رقماً في سلسلة طويلة من السياقات المعروفة والمقرورة مسبقاً في ما يشبه، بالنتيجة والمآل، مفاهيم القبيلة المتأصلة في التصوّر العربيّ قبل الإسلام.
في الخلاصة، نحن أمام كائن تأويليّ، مستلَبٍ ومبرمج. إنّه نمط من أنماط إنتاجية الكائنات أيضاً. نمط لا يخرج في أطواره الحديثة عن كونه سلعة في ماكينة الاستهلاك الضخم للسلطة التي تحتكر أفقياً ورأسياً معظم المفاهيم الحساسة ومنها مفهوم «الجزاء الأخرويّ»، أياً يكن شكل هذه السلطة الظاهري. فيصير المستهدَف بآليات هذه السلطة «حياً أو شهيداً مؤجلاً» معطىً «ذا نزعة تدميريّة بغطاء إيمانيّ طقوسيّ»، «إنه يعاني القهر ويحاول، بشتى السبل، أن يتخطّى القهر والانفصال والشعور بالهشاشة. كائنٌ مفرغ من الأمل، يميل في أغلب الأحيان الى الاسترخاء والتواكل باعتباره فانياً من جهة وضامناً للجزاء الأخروي من جهة ثانية».
ربّما كان هذا الكائن بالنتيجة هو بــــؤسَ المعاصرة المكتمل أيضاً، مضافاً إلى بؤس التآويل الأصولية الثابتة.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى