نيتشه .. فيلسوف عابر للأزمنة

حسن حجازي حسن

بدعوة كريمة من دار “كلمات” الكويتية للنشر والتوزيع أنهيتُ ترجمتي لأحد كتب نيتشه المهمة: “إنسان، مُفرِط في إنسانيته”, أو ما يُطلَق عليه: “كتاب العقول الحرة”.

هذا ما دفعني للكتابة عنه والخوض في حياته ومسيرته الفكرية والفلسفية واتجاهاته الدينية التي أثارت الكثير من الجدل والخلافات .. بل الكثير من الحروب والنزاعات التي نتج عنها موت الملايين من البشر ودمار البلاد وتشريد العباد.

ينظر إلى فريدريك نيتشه باعتباره أحد أكثر فلاسفة العصر الحديث شهرة وتأثيرا، حيث أثرت أعماله وأفكاره مسيرة الفلسفة والمعرفة الإنسانية، وكانت ملهمة للوجودية وما بعد الحداثة، وبعيدا عن بعض العبارات المثيرة للجدل المعروفة عنه، دعونا نخوض في سطور موجزة “تتناول حياته ومعتقداته”.

لكن من هو نيتشه؟ وما أهميته ومكانته العلمية، وتلك الشهرة الواسعة التي أحاطت به، وما هي الآثار والنتائج التي نجمت عن كتبه وفلسفته ومعتقداته والتي جعلت الكثير من المعجبين يهيمون به ويحلقون في فلكه، بل يضحون بأنفسهم في سبيل تحقيق تلك المباديء. بل تنشب بسببها الحروب والكوارث التي أتت على الأخضر واليابس والملايين من الضحايا والمفقودين في سائر أنحاء العالم عامة، وفي أوروبا بصفة خاصة.

يقول د. لويس عوض: “وقد قدّر لابن القس هذا أن يكون أكبر داعية عرفه التاريخ لمناهضة الأخلاق المسيحية.. فهو من فرض خشيته أن يكون قديسًا آثر أن يكون شيطانًا. وقد كان نيتشه شيطانًا بالفكر” .. “لذلك تدور أكثر كتابات نيتشه حول فكرة واحدة هي تحرير الإنسانية من الأخلاق المسيحية.. فالأخلاق كلمة لا معنى لها إلاَّ في قاموس العبيد، والفضيلة عملة يشترى بها الضعفاء السعادة في الحياة الدنيا أو في الدار الآخرة. الأخلاق المسيحية عند نيتشه (أخلاق المنفعة)، والمسيحية هي {اللعنة الوحيدة الكبرى، وهي الانحراف الوحيد الهائل المتغلغل الذي تجوز مقاومته بأية وسيلة.. وأنا أسميها الوصمة الوحيدة الخالدة في جبين البشرية}..”

كما هاجم نيتشه الثورة الفرنسية لأنها تنادي بالمساواة والإخاء بين الناس، وهي ضد فكرة السوبرمان الذي يتميز بالفخر والعظمة والمعرفة وركوب الأخطار وخوض المعارك.

قال نيتشه إن “المسيحي كائن بطال، مغرور، ضائع. أنه غريب عن نشاط الأرض.. لهذا فإن الحياة تنتهي حيث يبتدي ملكوت الله”.

وأيضًا قال نيتشه” “أول واجب علينا إذا أردنا أن نمهد لظهور السوبرمان هو ليس التخلي عن الأخلاق المسيحية فحسب، بل مقاومة هذه الأخلاق التي تمجد الضعف وتحوُل دون ظهور السوبرمان الذي يتوكل على نفسه فقط ولا يتوكل على الله.. فالمجد للأقوياء وسحقًا للضعفاء والمحتاجين، والخير والرحمة كلمتان ينبغي إزالتهما من القاموس. كن صلبًا، لا تراع جارك.. فالخطر الأول على الإنسانية الفاضلة كامن في الأخلاق المسيحية”.

وعندما أصدر نيتشه كتابه “فيما وراء الخير والشر” دافع فيه عن الشر وهاجم الخير، بل وهاجم الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل الذي قال إن من واجب الإنسان أن يعمل على انتصار الخير واندثار الشر.

أما نظرة نيتشه للإنسان فتتمثل في أن نيتشه قد هاجم الإنسان الحالي بوصفه الدودة الحقيرة والقرد والحيوان، وكان يحلم بالإنسان السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي يحطم كل المقاييس البشرية.

عن الإنسان الحالي يقول: “إن الذي يثير اشمئزازنا هو هذه الدودة الحقيرة، الإنسان الذي ما برح يتناسل.. يمكننا التساؤل عما إذا كان هؤلاء المسافرون الجوابون قد شهدوا في طوافهم شيئًا يبعث على الكراهية والتقزز أكثر من وجه الإنسان. إذا كان الله خلق الإنسان فإنما خلقه قردًا يلهو به في أبديته الطويلة.. الإنسان أقسى الحيوانات وأشجعها، وعندما يفكر فهو الحيوان الذي يصدر أحكامًا.. فهو مرادف للمرض والاعتلال. وأنه لا يدرك نفسه إلاَّ من خارج”.

أما عن الإنسان السوبرمان، فقال نيتشه: “لقد ماتت الآلهة جميعًا، ونريد الآن أن يعيش السوبرمان أو الإنسان الأعلى. إنني أبشركم بالإنسان الأعلى. يجب أن يأتي من الإنسان من يفوق الإنسان”.

يقول د. لويس عوض أيضًا: “تأثر نيتشه بنظرية داروين في التطوُّر، وبنى عليها نظرية أخرى خلاصتها أن في الإنسان غزوًا طبيعيًا يجعله يعتقد أنه آخر مرحلة من مراحل الحياة العضوية، ولكن تاريخ تطوُّر الأحياء يدلنا على أن عملية التطوُّر لن تقف عند حد الإنسان، بل ستستمر في المستقبل، ومنها سينشأ نموذج من البشر أرقى من الإنسان الحالي وأقرب إلى الكمال، يمكن أن نسميه السوبرمان. فإن لم تكن عوامل التطوُّر الموجودة تؤدي بالضرورة إلى ظهور السوبرمان فيمكن أن نعمل على توجيهها بحيث تنتهي بظهوره.

والسوبرمان أو الإنسان الفاضل لا يختلف عن الإنسان العادي في أنه أدنى إلى السعادة، بل يتميز عنه بالقوة، وتتمثل هذه القوة في الإرادة الجبارة وفي مباشرة السلطان. ولكي توطئ لظهور هذه الفصيلة الراقية من البشر لا بد أن يتعلم البشر القوة والصلابة والقسوة، وأن يبغضوا الضعف والدعة والراحة والقناعة والتسامح والرحمة والتواضع والإخاء والمساواة”.

أما نظرة نيتشه للمرأة فهي نظرة احتقار شديد، فقد أظهر نيتشه كراهيته الشديدة للمرأة بالرغم من أن أمه كانت سيدة متدينة، وأخته أليصابات كانت من أقرب الناس إليه، وقد وصف النساء في كتابه “هكذا تكلم زرادشت” بأنهن قطط وطيور وأبقار، وأن دورهن في الحياة مجرد الترفيه عن الرجال المقاتلين، ودائمًا ينشغلن بالرقص وأدوات الزينة والكلام الفارغ والعواطف الهوجاء، ومن أقواله “إذا ذهبت إلى امرأة فلا تنسى أن تأخذ معك سوطك”.

ويرى أن المرأة التي تريد أن تستقل بذاتها ولا تخضع لإرادة الرجل فأنها فظيعة، وأن الشرقيين محقين لأنهم ينظرون للمرأة كقطعة تُباع.

وبينما كان نيتشه على فراش الموت قال لأخته: “أعطني وعدًا إذا متُ ألاَّ يقف حول جثتي إلاَّ الأصدقاء، فلا يُسمح بذلك للجمهور المحب للإستطلاع، ولا تسمحي لقسيس أو غيره أن ينطق الأباطيل بجانب قبري، في وقت لا أستطيع أن أدافع فيه عن نفسي. أنني أريد أن أهبط إلى قبري وثنيًّا شريفا”.

هذا وقد امتلئت أعمال نيتشه بالأفكار البطولية، وكان “التغلب على الذات” هو أحد الأعمدة الرئيسية لأفكاره، والذي يتلخص في قدرة الإنسان على التغلب على الظروف والصعاب، كي يصل لما أسماه “السوبر مان” أو “الإنسان الأرقى”، وحينها فقط، يصبح الإنسان بالفعل كما يجب أن يكون.

وبعد تلك قراءة سريعة في عالم نيتشه وفلسفته وفكره نابعة من دعوة صادقة لإعمال الفكر والعقل لترسيخ قيم العلم والحق والجمال. رغم اختلافنا معه ومع فلسفته وأفكاره لكنها رحلة في عقل الرجل وفلسفته، فلربما نصل للإيمان الأسمى الأنقى الذي نجد في رحابه السلوى وراحة البال .. لنصل به ومن خلاله للإنسان المفرط في إنسانيته .. الإنسان الذي يسمو ويرتفع بإنسانيته الذي لا يقتل ولا يكذب ولا ينافق ولا يسفك الدماء. الإنسان الحر الذي لا يتاجر بالدين، الذي يسمو فوق نفسه، الذي يضحي بنفسه في سبيل غيره، الذي يبذل الغالي والنفيس في سبيل مجتمعه وإخوانه في الإنسانية، ليصبح بحق: “إنسان .. مفرط في إنسانيته!”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى