سميح القاسم منتصب القامة يمشي..نحو وطن يتوهج في القصيدة

د.ايهاب بسيسو

من هناك .. من أقصى شمال الحلم- الجغرافيا .. من مزيج الهواء مع التاريخ والبحر وحكايات الجدات عن المحاربين والغزاة والمزارعين ومواسم الحصاد. من هناك .. من رغبة نجمة في أن تكون قصيدة عن الأرض، ومن سر سنديانة لم تقتلعها العواصف نبتت أبجدية سميح القاسم لتصبح وطنا في قصيدة وأغنية نأتي اليها بأحلامنا الكبرى عن الحرية لنستمد من إشعاعها نورا ملهما في الأدب والحياة. لقد برز سميح القاسم كأحد أهم قامات الإبداع الفلسطيني، كما شكلت قصائده علامة بارزة في الشعر الحديث وحضورا مميزا في الثقافة الفلسطينية والعربية. فقدرة سميح القاسم الإبداعية وتميزه الشعري جعله في مقدمة القامات الأدبية، التي اتخذت من الأرض والانسان شعاراً للحياة، وعنوانا لنضال الثقافة بتثبيت الرواية الفلسطينية والابداع الفلسطيني، أمام كل محاولات الطمس والإبادة الثقافية والتهجير والاقتلاع. * * * لقد كان قلب الشاعر ممتزجا بهواء البلاد وترابها، نابضاً بحرية الانسان التي ناضل من أجلها سميح القاسم، رافعا قامة ثابتة لم تنكسر أمام الريح الهائجة. في لغته مساحة للغضب والتأمل، للحلم الذي يتخذ مسار صمود يومي في اللغة والحياة، للغد الذي يستدرجه سميح القاسم بإصرار، كي يستبدل به ظلا ثقيلا للخوذة والدبابة على تفاصيل المكان. * * * هو ابن الجغرافيا التي لم تستسلم للحواجز ومكعبات الاسمنت وسياسات الفصل العنصري، بل تمردت على كل أشكال الطوق والحصار، لتنتزع حقها في الوجود والحياة، وتواصل السفر في عروقنا أغنيات وأناشيد شكلت مرجعا هاما من مراجعنا الوطنية والإبداعية، وركنا أساسيا في قاموسنا المعرفي، ونحن نعرف الهوية والانتماء لفلسطين الحق والفكرة والوطن والحلم والمستقبل. * * * لم ينفصل شعر سميح القاسم عن دوره النضالي، بل شكل حالة فلسطينية ملهمة لأجيال لاحقة تناضل بالإبداع والقصيدة، ففي سيرته الابداعية والوطنية من المواقف والدروس، التي جعلت من فلسطين مساحة لنضال انساني يتجاوز سياسات عزل الجغرافيا عن محيطها وعمقها الثقافي، ليواجه عنف المستعمر وغطرسة الاستعمار. كما شكلت تجربة سميح القاسم الشعرية إضافة تكاملية لشعر المقاومة في مرحلة ما بعد النكبة، الى جانب معين بسيسو، ومحمود درويش، وتوفيق زياد، وراشد حسين، وغيرهم من فرسان القصيدة على امتداد التاريخ الفلسطيني، الذين كرسوا قصيدة المقاومة في الأدبيات النقدية والإبداعية كإحدى ركائز النضال الوطني الفلسطيني. * * * إن رحيل المبدع والمعلم الملهم سميح القاسم شكل خسارة للمشهد الثقافي الفلسطيني والعربي، ذلك الرحيل المفجع الذي جاء في آب 2014 في ذروة العدوان على غزة، ونحن نحمل جرح المكان يوميات صمود وبقاء لنواجه رواية المستعمر برواية الأرض التي تستحق الحرية والغد. رحل جسد سميح القاسم غير أن روحه لم تغادر فضاء المكان بل تشكلت لغة وإرادة وبقاء يتحدى الموت بالانتصار للإنسان. في ذكرى وفاته الثانية نرمم حضورنا بالمزيد من قصائده وحضوره المستمر فينا رغم الغياب، لنؤكد على دور الثقافة في المقاومة ودور الثقافة في الحياة. سميح القاسم “أبو وطن” الشاعر، الذي رفع بابداعه اسم البلاد لتصبح فلسطين، كما ستبقى عنوان الصمود والإرادة والحرية.

(الأيام الفلسطينية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى