خيانة النص سينمائياً أو الإخلاص له؟

فاضل الكواكبي

شهدت ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، إقبالاً كثيفاً على اقتباس روايات نجيب محفوظ للسينما. اقتباسات وقعت في إشكاليات عدة، ولا سيما في محاولة بعضها تنميط السمة السهلة في تناول هذا الأدب، مثلما وقع بعضها الآخر في محاولة استنطاق أدب الروائي، لقراءة نقدية للحقبة الناصرية.. وبين ذلك كله، ثمة سؤال لا بدّ أن يُطرح: أين اللغة السينمائية من ذلك كله؟

العلاقة متعدّدة المستويات التي ربطت نجيب محفوظ بفن السينما، تغري بالاستمرار في البحث والتصنيف والتحليل. لقد كُتِب الكثير عن هذه العلاقة وبخاصة حول الاقتباسات الفيلمية من أعماله الأدبية وبرغم أهمية بعض هذه النصوص (كتابات سمير فريد وهاشم النحاس على سبيل المثال لا الحصر)، إلا أن غالبيتها مال إلى التصنيف والتأريخ بعيداً عن التحليل التطبيقي أو النظري، كما سادت في معظم الكتابات وجــهات نظــر لا سينــمائية تقوم على معيار هشّ هو مدى «التــزام» النص السينمائي بالنـص الأدبــي و«الإخــلاص» لهذا الأخير.
النقطة الأساسية التي مازالت تثير التساؤل حول علاقة السينمائيين بأدب محفوظ؛ مرتبطة بإقبالهم الشديد على اقتباسه؛ لاسيما في حقبتي الستينيات والسبعينيات، وهل لهذا الإقبال ارتباطٌ بمادة أدبه أم بسهولة تناول هذا الأدب سينمائياً؟ فمن السائد لدى السينمائيين أصحاب الأسلوب الخاص (وما زلنا نذكر تجربة وآراء هيتشكوك بهذا الخصوص) الميل إلى اقتباس النصوص الأدبية المتوسطة، وذلك لقدرتهم على السيطرة عليها ووضعها في سياق مرتبط بوجهة نظرهم السينمائية.
وهذا ما حدث بالتحديد مع السينما المصرية إبان نهضتها الأولى أواسط الخمسينيات؛ فاقتبست بكثافة أعمال إحسان عبد القدوس، يوسف السباعي، عبد الحميد جودة السحار وآخرين، وشارك محفوظ نفسه كسيناريست في اقتباس كثير من هذه الأعمال.
ولكن أدب محفوظ ظلّ ينتمي الى طابق الأدب الكبير؛ فبرغم الثراء الدرامي والواقعية الغالبة يرتفع السرد عنده عن مستوى الحكاية إلى الشغل بعمق على بنية النص ومستوياته ونسقه اللغوي، فإذا افترضنا أن أعماله الواقعية ـ النقدية سهلة الاقتباس ـ وهو افتراض غير دقيق ـ فإننا نتساءل عن تلك الأعمال التي احتوت ـ بشكل عضوي عميق ـ تأثيرات وتبدّيات رمزية وفرويدية ومجازية وتكنيك سردي قارب بقوة تيّار الوعي الانكلوسكسوني، فكيف استطاع بعض السينمائيين خاصة في الستينيات السيطرة عليها وتقديم أفلام ذات خصوصية سينمائية في الجوهر؟ لا شك في أن لا قاعدة في الإبداع المهم؛ فالأدب الكبير اقتبس كثيراً بأشكال مختلفة غلب عليها الطابع الحرفي ولكن كبار المخرجين من أورسون ويلز الى كيروساوا وبولانسكي استطاعوا أن يقدّموا أفلاماً مقتبسة شديدة الخصوصية في الأسلوبية الفيلمية، إذ إنهم كانوا قادرين في آن أن يحفروا في النص الأدبي ويتحرّروا من سطوته.
لقد أثمر الاقتباس الحرفي ـ الكلاسيكي ـ عن محفوظ أفلاماً مهمة، ولكنها اقتصرت على نصوصه الواقعية النقدية، وهذا ما نلاحظه في اقتباسات صلاح أبو سيف. المفارق هنا أن مخرجاً أقل معرفةً وطموحاً من (أبو سيف) وأكثر تأثّراً بسينما النوع والسينما الهوليوودية الخفيفة هو حسام الدين مصطفى استطاع أن يقدّم فيلمين من أهم ما اقتبس عن أدب محفوظ هما «الطريق» (1964) و«السمان والخريف» (1966). تأتي أهمية هذين الفيلمين من أن قدرة (مصطفى) تكمن في فرض خياراته البصرية والإيقاعية وجعلها المتن الأساسي للسرد الفيلمي، على الرغم من أنه بالغ فيها أحياناً إلى حد الشكلانية، أما حسن الغمام المنتمي أساساً إلى السينما التقليدية، فقد استطاع في اقتباساته لـ«زقاق المدق» (1962) و«الثلاثية» (1966ـ1971) أن يبدع في تقديم عالم بصري ممتع وخاص.
كمال الشيخ بدوره قدم برأينا أهم اقتباس عن أدب محفوظ وهو فيلم «اللص والكلاب» (1964)، فهذا المبدع الكبير الذي اشتُهر بحرفيته العالية وسيطرته الممتازة على أدواته قدّم شريطاً احتوى على تعبيرٍ بصري وتأثير درامي يصلان بتشابكهما العضوي حد الشاعرية السينمائية بأفضل معانيها.
لكن (الشيخ) نفسه تلاه (حسين كمال)، فشلا في تقديم نتاج فيلمي مهم في «ميرامار» (1968) للشيخ و «ثرثرة فوق النيل» (1971) و«حب تحت المطر» (1972) لكمال، وذلك لأنهما ومعهما كاتب سيناريو الأعمال الثلاثة ممدوح الليثي استخدما النص المحفوظي لإدانة العهد الناصري، فنمّطا الشخصيات التي كانت عند محفوظ أكثر ثراء وغِنىً وجعلاها تنطق بمقولات أيديولوجية فجة، مستخدمين لغةً سينمائية تقليدية (عند الشيخ) ومتفذلكة شكلاً (عند كمال) وكاد يحدث الشيء نفسه في «الكرنك» (1976) لعلي بدرخان لولا البلاغة السينمائية العالية التي أنقذت الفيلم من التنميط ومباشرة الطرح الأيديولوجي.
في الثمانينيات وعلى الرغم من كثرة الاقتباسات لم يظهر سوى فيلم مهم واحد مأخوذ من أدب محفوظ هو «أهل القمة» لعلي بدرخان (1981) بينما فشل في فيلمه الآخر «الجوع» (1986) المأخوذ عن «ملحمة الحرافيش» في تقديم منجز خاص بسبب البنية الأدبية لهذا الفيلم، والذي بُذِلت فيه جهود إنتاجية حرفية كبيرة بينما حصل العكس مع أحد رواد الموجة السينمائية المصرية الجديدة كان هو عاطف الطيب في شريطه «في قلب الليل» (1989) إذ إن هذا الفيلم عانى من تقتيرٍ إنتاجي وإهمالٍ حرفي أثّرا بشدة على النتيجة النهائية، علماً بأن (الطيب) تعامل مع نص شديد الصعوبة وذهنيّ المزاج، وفشل بأن يقدّم معادلاً بصرياً يقارب عمق هذا النص.
تبقى قائمة مفارقة عدم اقتراب أهم مخرجَين عرفتهما السينما المصرية طوال عقدين أو ثلاثة، وهما توفيق صالح ويوسف شاهين من أدب نجيب محفوظ، والمفارقة تكمن بأنهما كانا بالتحديد ـ بالإضافة الى صلاح أبوسيف ـ الأقرب من ناحية المزاج الثقافي والمعارف العالية من محفوظ، بل إن (توفيق صالح) كان عضواً أساسياً في شلة الحرافيش، كما أن محفوظ كسيناريست شارك في كتابة العديد من أفلامهما، نذكر منها «درب المهابيل» لصالح (1956)، و«جميلة بو حيرد» (1959) و«الناصر صلاح الدين» (1961) و«الاختيار» (1970) لشاهين.
الظن الأكبر أن التهيّب والتردّد والرغبة غير المتحققة في تقديم خطاب سينمائي خاص عند الاقتباس، هو الذي أبعد (صالح) عن العمل على أدب محفوظ، أما شاهين فقد كان يميل في معظم الأحيان إلى نصوص مكتوبة خصيصاً للسينما مستعينًا ـ في فترته الذهبية التي سبقت الثمانينيات ـ بكتّاب سيناريو رفيعي السوية يضعون له الأساس المتين لرؤيته البصرية وكان محفوظ أبرزهم.
ما زالت الأسئلة حول علاقة نجيب محفظ بالسينما كأديب وسيناريست وإداري، وأساساً كمثقف إشكالي كبير، تغري بالمزيد من البحث والتحليل اللذين نرجو أن يتعمّقا في المقبل من الأزمنة.
(ناقد سوري)

من خطاب «نوبل»
… «لعلكم تتساءلون: هذا الرجل القادم من العالم الثالث، كيف وجد من فراغ البال ما أتاح له أن يكتب القصص؟
وهو تساؤل في محله.. فأنا قادم من عالم ينوء تحت أثقال الديون حتى ليهدده سدادها بالمجاعة أو ما يقاربها. يهلك منه أقوام في آسيا من الفيضانات. ويهلك آخرون في أفريقيا من المجاعة. وهناك في جنوب أفريقيا ملايين المواطنين قضي عليهم بالنبذ والحرمان من أي من حقوق الانسان في عصر حقوق الإنسان وكأنهم غير معدودين من البشر. وفي الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم. هَبُّوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به. فكان جزاء هَبَّتِهم الباسلة النبيلة ـ رجالا ونساء وشبابا وأطفالا ـ تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبا في السجون والمعتقلات. ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب. يتابعون ما يحدث بغضب وأسى مما يهدد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل.
أجل كيف وجد الرجل القادم من العالم الثالث فراغ البال ليكتب قصصا؟ ولكن من حسن الحظ أن الفن كريم عطوف. وكما أنه يعايش السعداء، فإنه لا يتخلى عن التعساء. ويهب كل فريق وسيلة مناسبة للتعبير عما يجيش به صدره…
وفي هذه اللحــظة الحاسمة من تاريخ الحضارة لا يعقل ولا يقبل أن تتــلاشى أنات البشر فى الفراغ. لا شك أن الإنسانيــة قد بلــغت على الأقل سن الرشد.
… رغم كلّ ما يجري حولنا فإنني ملتزم بالتفاؤل حتى النهاية. لا أقول مع الفيلسوف «كانت» إن الخير سينتصر في العالم الآخر. فإنه يحرز نصرا كل يوم. بل لعل الشر أضعف مما نتصور بكثير. وأمامنا الدليل الذي لا يجحد. فلولا النصر الغالب للخير ما استطاعت شراذم من البشر الهائمة على وجهها عرضة للوحوش والحشرات والكوارث الطبيعية والأوبئة والخوف والأنانية، أقول لولا النصر الغالب للخير ما استطاعت البشرية أن تنمو وتتكاثر وتكون الأمم وتكتشف وتبدع وتخترع وتغزو الفضاء وتعلن حقوق الإنسان: غاية ما في الأمر أن الشر عربيد ذو صخب ومرتفع الصوت وأن الإنسان يتذكر ما يؤلمه أكثر مما يسره…

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى