يبقى مثيراً للاهتمام، نبقى مثيرين للامتعاض

أحمد شافعي

ليس يسيراً على شخص مثلي، ينسى أهم التواريخ في حياته، أن يتذكّر تاريخ رحيل نجيب محفوظ أو تاريخ ميلاده، أو يتذكّر إلا بشكل تقريبي في أي سنة بالضبط حصل على نوبل للآداب. لكن المصادفة وحدها جعلتني قبل أيام قليلة أنتهي من قراءة كتاب “هاشم النحاس” الصادر قبل بضع سنوات عن الهيئة العامة للكتاب بعنوان “يوميات فيلم القاهرة 30”. ولم أكد أنتهي من الكتاب الممتع، إلا ووجدتني أعيد قراءة رواية “القاهرة الجديدة”، بدلاً من أن أشاهد الفيلم! وما كدت أنتهي من ذلك حتى وجدت موسم الاحتفال بذكرى محفوظ قد حان، فانتشرت المقتطفات على فيسبوك وتويتر، وأعيد نشر المقالات المكتوبة والمنشورة طوال السنوات العشر الماضية.
في “القاهرة الجديدة”، مضيتُ كدأبي أقرأ بالقلم، مبرزاً السطور التي تستوقفني، كأنما أورِّث شيئاً لنسخة تالية من نفسي، أو كأنما أشهد نفسي الآتية على نفسي الغابرة، أو لعلي علاوة على هذا وذاك أهدئ إيقاعي القرائي أمام مشهد على الطريق جدير بالتمهل، وبالتأمل.
***
لا أعرف أين قرأت أن الجريمة التي لا ينبغي أن يغفرها إنسان لنفسه هي أن لا يكون سعيداً. لعل انشغالي، وأنا على مشارف الأربعين، بالسعادة، وقياسي جدوى كل فعل وقيمة أي جهد على مقياس سعادتي الشخصية، لعلّ ذلك هو الذي جعلني أقرأ محجوب عبد الدائم ـ بطل القاهرة الجديدة ـ قراءة غير التي قرأته بها من قبل. ربما ينبغي أن أبادر هنا بالتبرؤ من عبد الدائم، ومن اختياراته، وأن أوضح بما لا يدع مجالاً للبس أن لم يحدث ولن يحدث ولا يمكن أن أكون في مكانه، ويستحيل أن أتخذ قراراته، ولن يأمن مخلوق أن يعرض عليّ ما عرض على عبدالدائم. ولكنني، بعيداً عن هذه التخوفات التافهة، في قراءتي هذه للرواية، بعد سنين كثيرة حقاً من قراءتي الأولى، كنت أريد لمحجوب في كل مأزق أن ينجو، بأي ثمن يدفعه. كنت أفهم وأنا في منتصف العمر ما فهمه عبدالدائم في غضاضة شبابه: إنها فرصة واحدة لحياة واحدة، وما الذي أراده عبدالدائم وباع في سبيله بعض ما يجعل الإنسان إنساناً؟ ليس أكثر من أن يجد ما يشبعه عند الجوع، جوعه إلى الطعام أو الحب أو الأمن. في القاهرة الجديدة، لم يطلب عبدالدائم إلا ما طلبه الإنسان البدائي في الغابة، وما أطلبه أنا وتطلبه أنت في القرن الحادي والعشرين. وكل مرة يتعذّر على الإنسان طلبه البسيط هذا، إلا بقوة. قد تكون قوة الجمال، أو المال، أوالسلطة، فإن تعذر ذلك كله فالانحطاط أيضاً قوة. وعبدالدائم لم يملك من أسباب القوة إلا قدرته على التنازل عن بعض إنسانيته خدمة لبعضها الآخر.
ولم يتغيّر شيء.
في السنين التالية لثورة الخامس والعشرين من يناير رأيت مناضلين لا أستطيع أنا على الأقل أن أنسى أنهم وقفوا في وجه حسني مبارك معارضين شرفاء مرفوعي الأصوات في عز قوته وسطوة يده الأمنية الباطشة، ثم إذا بهم بعد سنوات قليلة من الفوضى يخشون على أنفسهم، ويحرصون على الجدران الأربعة التي تقيهم أنياب الناس وأظافرهم حرص الإنسان البدائي على كهفه، وإذا بهم يرفعون بيارق العسكر فوق رؤوسهم، ويقبلون من الطاغية الجديد ما أنكروه محقين على الطاغية القديم. كيف أفهم هؤلاء ـ الذين تعلّمتُ الكثير من قراءتي لهم ـ إلا بفهمي لمحجوب عبدالدائم، فهمي للإنسان حين يضطر إلى ترتيب أولوياته، فيقدم الأمن على الحرية، والاستقرار على الكرامة، ولا يعرف طريقة يحب بها نفسه إلا ممثلة في جزمة العسكر؟
في هذه القراءة للقاهرة الجديدة لم أتعلم فقط أن أفهم محجوب عبدالدائم، بل وجدت نفسي متورطاً معه، لدرجة أن أستكثر في مشهد الرواية الأخير على أبيه مساءلته لابنه، وتوبيخه له. اسكت، أردت أن أقول، اسكت، ماذا تعرف أنت عن محجوب عبدالدائم؟ اسكت، هذا آدم في أرض جديدة، وكل ابنٍ آدمُ أرضٍ جديدة لا يعرف أبوه عنها أي شيء. اسكت، وانتظر الموت مخلصاً، لا تحاول بأنانية أن تترك قيمك لشخص لم تورّثه إلا أسباب شقائه، ولم يكن غيرك سبب لعنته.
لم يتغير شيء.
وأفكر، وأنا أضع بتمهل خطوطاً تحت عبارات من الرواية، هل طبيعي أن تستوقف هذه العبارة أحداً: “الجامعة مكان لا يجوز أن يُذكر فيه لا الله ولا الهوى”؟ أو حوار كهذا: “ماذا يحتاج جيلنا من مبادئ؟”، “الإيمان بالعلم بدلاً من الغيب، والمجتمع بدلاً من الجنة، والاشتراكية بدلاً من المنافسة”؟ هذه عبارات لا يمكن ـ في تصوري ـ أن تسمعها في حوار بين طلبة في أي جامعة عربية، وهي في الرواية شذرة من حوارات بين طلبة. لا يستطيع روائي أن يكتب هذه العبارات واثقاً أنه سوف يسلم بها. ولا يستطيع كاتب أن يضمنها مقاله إلا موضوعة بين أقواس، منسوبة إلى غيره، كأنما يتبرأ منها.
كان ينبغي بعد ثلاثة أرباع القرن على صدور رواية كهذه، أن تكون الجامعة الآن فعلاً مكاناً لا يُذكر فيه الله، كان ينبغي على أقل تقدير أن يؤمن الناس بالعلم إيمانهم بالغيب، ويعملوا من أجل المجتمع عملهم من أجل الجنة، ويروّضوا المنافسة بالاشتراكية. كان ينبغي أن يتقربوا إلى الله إن شاؤوا بأن يستعملوا ما وضعه فيهم من عقل. كان ينبغي أن نقرأ أغلب أعمال محفوظ الآن قراءة الأبناء البررة إذ يتذكرون أباهم بأعماله أو يخلّدونه باحترام طربوشه، لا قراءة التلاميذ الذين تمر العقود بدون أن يتجاوزوا معلميهم أو يضيفوا إلى منجزاتهم. ولكن شيئاً من هذا لم يحدث، وبقيت عبارات محفوظ تتردد وتتواتر، مثيرة للاهتمام، لأننا نحن مثيرون للامتعاض.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى