سورية لافتتاح «أيام المخرجين» وسورية أيضاً لاختتامها

عرفات رشيد

كونَها وُلدت لتكون رؤية أخرى مغايرة، وليس ندّاً للـ «موسترا»، منحت تظاهرة «أيام المخرجين في فينيسيا» طاقة كبيرة للتواصل والتميّز، ولكونها اجتازت عمر الثانية عشرة (في هذه السنة) فإن ذلك يعني أنّها ترسّخت كتظاهرة وكظاهرة مرافقة للأعرق في تاريخ المهرجانات السينمائية. و«ما يُميّز اختيارات هذه السنة هو أن الأفلام التي انتقيناها تعكس واقعاً مهماً للغاية للسينما المعاصرة اليوم، أي الطاقة الكبيرة التي تختزنها السينما وتعدّد المواهب المتميّزة التي تستعين بالفيلم لرواية عالم اليوم على أفضل وجه»، كما يقول المدير الفني للأيام جورجو غوزيتّي، الذي شاهد برفقة فريقة «كماً هائلاً من الأفلام الجيّدة والمثيرة للدهشة والمتجاوزة لما هو متوقّع».
وأسّس غوزيتّي وفريقه برنامج هذه السنة على ثلاثة محاور أساسية لخّصها قوله بـ:«نظرة على الوثائقي واهتمام كبير به، حيث نفتتح ونُغلق بوثائقيّين يتناولان المشهد السوري. وكان ضرورياً أن تكون سورية والشرق الأوسط جزءاً من «الأيام»؛
ثم لدينا حضور كبير للمخرجات وللشخصيات الإنسائية، وهو حضور يؤكد إسهام المرأة في بانوراما وعالم الإبداع الفني؛ وبعد ذلك لدينا السينما التي تضع الطبيعة في صلب اهتمامها».
ويرى غوزيتّي بأن »السينما تميّزت دائماً باستباقها الأحداث المجتمعية. وبما أن قضيّة الطبيعة ومستقبل الأرض ما عادا مقتصرين على اهتمام وعناية البيئيين فحسب، بل هما يعنيان الجميع اليوم، فقد اختارت سينما الحاضر كعنصر أساس، وأعتقد بأن هذه الموضوعات ستكون بين أهم مفردات نقاشات السنوات المقبلة».

لماذا سوريّة؟
منح غوزيتّي راية الانطلاق والافتتاح إلى فيلم «The War Show» الذي أنجزه المخرج الدانماركي إندرياس مول دالسغآرد (١٩٨٠) بالتعاون مع الإعلامية السورية عُبيدة زيتون على مدى أربع سنين. وسيختتم البرنامج بوثائقي الصحافية الإيطالية باولا بياتشينسا «The War Within». ويقول عن هذا الاختيار أنّ »على السينما، برأيي، أن تواصل كونها مفردة ثقافية، وأن تُعنى بالسياسة وبحياة الناس، ليس كانحياز لهذا الطرف أو ذاك، بل عبر مواصلة الحديث عن البشر وعن حياتهم» ويُضيف: «ما يُميّز فيلم «The War Show» هو كونه حكاية وسفر حياة رجال ونساء بأصواتهم من دون الاحتياج إلى وسيط أو إلى الاستنباط الخيالي، والحكاية تروي فترة طويلة، تُقارب الأربع سنوات، أي الفترة التي استغرقها إنجاز الفيلم، منذ عام2011» ويُشير المدير الفني لـ «أيام المخرجين في فينيسيا» إلى أنّه، وعلى رُغم حدوث تغيّرات خطيرة وعميقة في سورية منذ ذلك الحين فإن ما يثير اهتمامي أكثر من غيره، هو أنه لم يخطر ببال مُنجزة هذا السِفْر المصوّر بالهاتف النقّال، إنجاز فيلم سينمائي بل مجّرد التعرّف على الحالات ورواية حيوات وآمال ومخاوف ومآسي عدد كبير من الناس، ثم تحوّلت تلك المادة إلى فيلم، وهو فيلم مثير للدهشة وفي غاية الواقعيّة» .
غوزيتّي يؤكد قوله »لا أعلم ما إذا كان هذا الفيلم سيُساهم في الحوار والسجال السياسيّين في شأن سورية، لكني واثق بأنه سيكون عوناً كبيراً لشحذ الوعي وللضمير اللذين نتحدّث عنهما غالباً، عندما تعرض شاشاتنا الصغيرة المآسي اليومية في المجتمع ونتناسى بأنها مآسٍ وفواجع تخصّ حيوات بشر موجودين بالفعل، لذا فأنا فخور اليوم لكون البشر هم الأبطال الحقيقيون لهذا الفيلم»، ومنذ تأسيسها قبل اثني عشر عاماً، منحت تظاهرة «أيام المخرجين في فينيسيا» للسينما العربية وللقضايا العربية مساحة حضور مهمة.
وذلك من رشيد مشهراوي إلى سوزان يوسف وصولاً إلى ليلى بوزيد بشريطها المميّز «على حلّة عيني»، والذي أطلق جناح الممثلة الشابة بايا مظفّر، وصولاً إلى منح الموسيقي العراقي الشاب خيام اللامي مساحة إبداع مهمّة، ويعتبر المدير الفني للأيام الحضور العربي والقضايا العربية والشرق أوسطية «جزءاً من خاصّية هذه التظاهرة» ويُضيف «لقد أحببت فيلم ليلى كثيراً، كنت أعرف والدها جيّداً والتقيته قبل بضعة شهور في روما، وليلى مخرجة كبيرة وإنسانة رائعة.
لقد عشقنا أنا ونائبي سيلفان أوزو فيلم «على حلّة عيني» لمجرّد المشاهدة الأولى، وفكّرت بأنه فيلم مهم لأسباب عديدة، لأنه يروي لنا عن مجتمع خلال عملية تحوّل كبرى، وعن يوتوبيا كبيرة، لكن عبر حكايات أناس حقيقيّين وملموسين وفي فضائهم الملموس. لذا فأنا في غاية السعادة بعودتها إلينا لأن لجنة تحكيم جائزة الاتحّاد الأوروبي «جائزة لوكس» إختارت الشريط ضمن الأفلام الأوروبية الثلاثة والتي سينتخب النواب الأوروبيون واحداً منها ليُمنح الجائزة الأوروبية. أنا مسرور لأن محكّمين أوروبيين اعتبروا كفيلم أوروبي شريطاً تونسياً لم ينسَ أو يغضّ الطرف عن واقعه، أي تونس، وهو فيلم عن الثقافة والموسيقى واليوتوبيا التي يحلم بها ذلك المجتمع. وهذا مؤشر كبير، نعم مؤشر سياسي كبير».
وليست ليلى بو زيد وحدها من حظيت باهتمام «أيام المخرجين في فينيسيا»، بل امتلكت هذه التظاهرة على الدوام نظرة واهتمام خاصّين صوب السينما التي نُسمّيها «العربية» والمتوسّطية، وليس ذلك فحسب. أذكر جيّداً أننا عرضنا فيلم رشيد مشهراوي «رسائل من غزّة» وفيلم «حبيبي راسك خربان» لسوزان يوسف. ولمهرجان فينيسيا في شكل عام اهتمام خاص بالسينما العربية، لأنها سينما في حال تطوّر متنامٍ، أو بالأحرى ينبغي لنا أن نفكّر بمجموعة من «السينمات»، المتقاربة في ما بينها. فمثلاً عندما يجري الحديث عن السينما الأوروبية، فإننا نتحدّث عن السينما الإيطالية والفرنسية والإسبانية والإنجليزية وغيرها، لذا فالحديث عن «السينما العربية» إنّما هو حديث ذو بعد سياسي، لكن هناك العديد من الفروقات والتميّزات التي تسم الإنتاج السينمائي في هذه البلدان التي تنضوي تحت الهوية الثقافية العربية».
ثمة في اختيارات جورجو غوزيتّي لبرنامج تظاهرته نظرة خاصة صوب قضايا مجتمعات متباينة في ما بينها لكنها تواجه كلها ذات الإشكاليات الناتجة من العولمة، ويقول «من المهم إبقاء نظرة فاحصة ومتنبّهة إلى موضوعة الثقافات المتعدّدة في زمن العولمة، لأن هذا سيكون الموضوع الرئيس في الفترة اللاحقة. فمن نحن، ونحن جميعاً عبارة عن مجتمعات، لكن بجذور متباينة، لذا فمن الضروري الاحتفاظ بالنظرة الفاحصة على الاختلافات والتباينات عبر موشور ما يحدث اليوم. إن ذلك جزء من رسالتنا بالتأكيد».

الافتراضي رؤية جديدة
وعلى رغم الارتباط العميق لـ«أيام المخرجين في فينيسيا» بالواقع المعاش وبمشاكله وإشكاليات حياة الشبيبة، فإن التظاهرة فتحت ذراعيها هذه السنة لاحتضان تجربة جديدة بكل المعاني، إذّ ستعرض ضمن برنامجها وتناقش العرض الأول للفيلم الوثائقي «No Borders» للمخرج العراقي الإيطالي حيدر رشيد، والذي يتناول بتقنيات «الواقع الافتراضي» واحدة من أشدّ المشكلات الاجتماعية والجيوسياسية التي تواجه الاتحاد الأوروبي في هذه اللحظة، أي مشكة «الهجرة غير القانونية»، ويقول جورجو غوزيتّي في هذا الصدد:
«أنا فخور جداً بأن مُنجزي فيلم «No Borders» اختاروا مسرحنا للعرض والنقاش، لأن هذا الفيلم تجربة مهمّة وفريدة ومُجدّدة، وهو يدعونا إلى اليقظة في التعامل مع واقع المهاجرين اليوم، وأنا ممتنٌ لإيليو جيرمانو (النجم الإيطالي الحائز على سعفة «كان» الذهبية و«كأس فولبي» في فينيسيا لأفضل تمثيل)، لكونه راوية هذا الفيلم. إن في هذا الفيلم، إضافة إلى بعده السياسي، مظهراً سينمائياً مهماً للغاية، لأن نوعية «الواقع الافتراضي» و «التكنولوجيا» المستخدمة لإنجازه إنّما يُغيّران في شكل عميق وجهة نظرنا إلى الأمور كمشاهدين وكمخرجين، فهو يروي واقعاً وعالماً عبر النظر إليه في شكل دائري وبـ 360 درجة، على عكس ما يحدث في المعتاد عندما نشاهد مساحة الشاشة ولا نعرف ما الذي يحدث على جانبي الشاشة، ليس الأمر لعبة، كما يحدث مع «ثلاثي الأبعاد»، بل هو نوع جديد لرؤية الصورة والعالم.
ثمة مشهد في «No Bordes» أحبّه كثيراً، وهو المشهد الذي يتوجّه فيه إيليو جيرمانو إلى المشاهد، وهو واقف في نقطة عند تجمّع المهاجرين في مدينة «فينتيميليا» المحاذية للحدود الفرنسية. يطلب جيرمانو من المشاهد أن ينظر إلى ما وراء ظهره على الساحل، فما عليك في تلك الحالة إلاّ أن تستدير لترى صخور ذلك الساحل، فأنت إذّاك لم تعد تنظر إلى إيليو جيرمانو بل تنظر، بالضبط ما ينظر هو نفسه، لذا فأنت تُغيّر في العمق وجهة نظرك، وهذا درس سينمائي كبير، وهو في ذات الوقت درس كبير للواقع، يُعوّدك على رؤية ما لم تكن تنظر إليه في العادة»، وختم غوزيتّي قوله «أنا سعيد بحضور هذا الفيلم واعتبره لحظة أساسية من برنامج «أيّام المخرجين في فينيسيا»، وأنا معجب بهذا العمل»

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى