«…إلى مجاهل الشمال».. شعرية الفظاعة

عباس بيضون

«الطريق الضيق إلى مجاهل الشمال» العنوان مأخوذ من قصيدة هايكو يابانية، وهذا لا يستغرب في رواية تعتد بتبحرها في التراث الياباني خاصة شعر الهايكو الذي تتواتر مقاطع وفيرة منه على ألسنة أشخاص هم في الغالب طغاة يابانيون، ضباط تربوا على قسوة نادرة، هكذا تبدو المفارقة صارخة بين شعر عبّر عن حركة الزن بوذا التأملية ووقف على لحظات في الفصول الأربعة، وبين طبيعة الضباط وتربيتهم.
ليست هذه المفارقة الوحيدة في الرواية التي نالت جائزة بوكر الإنكليزية في العام 1914 فهي تبدأ كرواية حب. إذ نلتقي في بدايتها بإيمي زوجة رجل الأعمال كيث الذي يزيدها عمراً بربع قرن والذي تزوجها بعد أن حملت منه لكنه أصرّ على أن تجهض. كيث الذي يلاحق أعماله ومنصبه في المجلس الدستوري طوال يومه، وحين يعود إلى المنزل يثير بحديثه ملل زوجته الشابة، بينما يحتضن في حجره كلبته التي كرهتها الزوجة أيضاً. كيث عم ايفانز الضابط الطبيب الوسيم الذي كان يتهيأ للزواج من حبيبته ايلاَّ، وحينما يزور الشاب عمه يلتقي بإيمي وتصل بين الاثنين علاقة تبدأ مجانية لكنها تتحول إلى قصة حب حقيقية. بينما القارئ ينتظر أن تستمر الرواية في ذلك ويتشوق ليعرف مستقبل حب ايفانز وإيمي بعد ان صار ايفانز يقضي عطله الطويلة والأكثر قصراً مع إيمي، وبعد أن تعقدت القصة بمعرفة كيث الزوج للعلاقة، بل ومعرفته لها منذ بدئها.
بينما القارئ كذلك لا تعود الرواية عنده قصة حب، بل تتحول إلى ملحمة بكل معنى الملحمة، تتحول إلى رواية حرب، فقد نشبت الحرب العالمية الثانية ولن نصادف الحرب في مركزها، المانيا والغرب، بل سنجدها في أحد أطرافها أي بين أستراليا واليابان، مع ذلك لن نكون بعيدين جداً ففي الأطراف ما في المركز، بل إن في الأطراف زخم وضراوة الحرب كلها نفسها، على كل حال فإن الروائي ريتشارد فالانغان، أسترالي اجتهد لا في متابعة وثائقية لوقائع الحرب فحسب، بل ركز على ناحية خاصة هي الأسرى الأستراليون الذين وقعوا في أسر اليابانيين.
حين تنتقل الرواية إلى معسكر الأسرى الاستراليين لا يبقى شيء من قصة الحب التي كانت مطلع الرواية، لا نكاد نلمح سوى بعض ذيولها. سيتغير كل شيء وستدخل الرواية في عالم آخر نقيض تماماً، بل تصعب مقابلة الجزئين، الأول والثاني. يكاد الجزء الأول يكون أغنية بالقياس للجزء الثاني، بل يبدو فسحة جزئية، أما الجزء الثاني فهو الجحيم، إنه مكان للوحشية وللضراوة اللتين لا تصدقان.
لا يمكن هنا أن نتكلم عن مجرد القسوة ومجرد الفظاعة، إننا أمام قسوة أسطورية وفظاعة أسطورية، يملك الكاتب براعة أسلوبية بمستوى الشعر في رسم العوالم والأجواء، هكذا لن نجد في الأسر الياباني سوى آلهة للنذالة والعنف والاحتقار، أقول آلهة لأن اليابانيين لا يحتاجون إلى عقيدة تشبه النازية ليمارسوا عنصريتهم وانتفائهم من أي إنسانية، ليس لديهم سوى الكره والازدراء، ليسوا بحاجة إلى عقيدة كالنازية، فذلك موجود في تراثهم وميراثهم وتقاليدهم ونظامهم الاجتماعي، إنهم يحتقرون خصومهم الذين يستسلمون للأسر ولو كانوا يابانيين لانتحروا ولم يستسلموا. يمكننا هنا أن نتحدث عن شعرية التوحش، حين نسمع الكولونيل كوتا وهو يصف فنه في قطع الرؤوس ولومه لنفسه حين يتوانى عن قطع أحدها. ليس هناك سوى وحوش وهم وحوش بقوة التقاليد وقوة التراث وبقوة القيم الاجتماعية. هكذا يبدو الجزء الثاني مركز الرواية، بل هو تحفة الرواية. هنا نجد ما يشبه الشعر، شعرية الفظاعة كما سبق أن ذكرت. وبالقياس لها لن تكون قصة الحب التي سبقتها سوى خبر باهت، لن تكون قصة الحب هذه سوى حكاية أطفال أو لعبة أطفال، فالحقيقة، إذا جاز الكلام عن حقيقة، ليست إلا في الكراهية العمياء لليابانيين، أقول اليابانيين لأن الرواية في جانب منها افتضاح اليابانيين الذين هم جميعهم من ذات النمط المتوحش ولأننا لا نجد بينهم أي نموذج مختلف، لقد فطروا على ذلك أو ولدوا به. الشيخوخة وحدها تجعلهم طيبين، تجعل بعضهم كذلك بعد خسارة الحرب في المقابل. لن نجد نموذجاً أسترالياً مشابهاً، تجري بعد الحرب انتـقامات لكننا نجد خبرها ولا نجد شخصاً يمثلها.
لعل ما بعد الحرب لن يكون سوى سأم ما بعد الحرب. بعد الحرب ليس هناك زهو الانتصار. يتساوى الاستراليون المنتصرون واليابانيون المهزومون تقريباً في مدافعة الأيام ومضغها، ايفانز الذي أمضى أيامه في الأسر وهو يحلم بإيمي، لن يفعل شيئاً ليلاقيها. سيتزوج من حبيبته إيلاّ وسيخونها باستمرار وحين يتراءى له أنه رأى إيمي لن يسعى في أثرها. ايفانز الذي صار شهيراً بعد الحرب لا يكاد يفهم لماذا صار كذلك، الآخرون الذين خرجوا من الحرب لا يقلّون عنه عدم فهم. يمكننا هنا أن نجد في الرواية استخفافاً بالحياة ونظرة جوفاء لها. لا تقول الرواية ذلك صراحة لكننا نميز بين شعريات ثلاثة فيها، شعرية الحب وشعرية الفظاعة وشعرية السأم. نصل في القسم الثالث إلى واقعية موحشة بل إلى ما تحت واقعية إذا جاز القول. ومرة ثالثة ينجح ريتشارد فالانغان في أن يبتكر أسلوبية أخرى، بعد أسلوبته الحب وأسلوبية التوحش نجد أسلوبية الحياة اليومية المتكررة المتشابهة الجوفاء، حيث ليس هناك سوى دراما يومية كذلك الحريق الذي واجهه ايفانز وهو يسعى لإنقاذ عائلته.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى