الكرادة العراقية: حين يصبح الفن عوضاً عن الحياة

صفاء ذياب

لم تنطفئ نار الكرادة منذ الثالث من تموز/يوليو وحتى هذه اللحظة، فما زالت النيران تشتعل في قلوب أهالي بغداد خصوصاً، والعراقيين على وجه العموم، فالتفجير الذي لم تعرف ماهيته حتى هذه اللحظة كان مكاناً للحضور اليومي لمثقفين وفنانين وموسيقيين، يقيمون فيه عزاءهم اليومي ويرسمون صور أكثر من 300 ضحية أغلبهم من الأطفال والنساء والشباب.
هذه الفعاليات امتدت ليصل مداها إلى قيام خمسة عشر فناناً في التشكيل والنحت والشعر والعرض الإيحائي، هم حارث مثنى، حليم قاسم، رضا فرحان، رياض هاشم، ضحى الكاتب، عفراء خالد، كريم سعدون، مازن المعموري، محمد القاسم، محمد ديجان، محمد مسيّر، ناديه فليح، هادي ماهود، وضاح مهدي، هناء مال الله.. بتقديم أعمالهم داخل المبنى المحترق وخارجه.
ابتدأ هذه الفعاليات الشاعر مازن المعموري الذي قدَّم مشروعه الشعري التعبيري بالاشتراك مع الفنان محمد عبد الوصي، قائلاً في حديث لصحيفتنا، إن محرقة الكرادة تظلُّ كابوساً لن يفارق ذاكرة الإنسانية، ولا نستطيع نحن الفنانين المشاركين في هذا العرض الجماعي، تجاوز لوعة الأمهات الثكالى بأولادهن وعوائلهن. وقد امتد أثر هذا الحادث عابراً حدود العراق ليكون حدثاً عالمياً أصاب قلب الإنسانية وأثار ردود أفعال عالمية، كانت نتيجته أن شارك معنا فنانون من كندا للرد على التوحش والحرب والقتل المجاني. من هنا وضعنا الحدث أمام تساؤلات جذرية بحجم الجحيم الذي نعيشه، تواجهنا كل يوم، ماذا نفعل نحن الفنانين؟ هل ينبغي أن نكرس الفن للرد على الموت والتفجيرات؟ هل نترك كل شيء ونبقى داخل سطوح اللوحة والعمل الفني؟ كيف نواجه القبح والجثث والمفخخات؟
ويضيف المعموري عن عمله: التفكير بماهية العمل الفني والعرض داخل المكان المحروق بأرواحه الهائمة وفحوى الحدث المؤلم كبيرة، لدرجة لا يمكن تخيلها لمن عاش خارج المحرقة، أو سمع بها، لذلك كانت مشكلة التعامل مع الموضوع هي الأخطر. إننا مجموعة من الفنانين اجتمعنا لنقول كلمة ضد الإرهاب والقتل والحرب، فكل فنان له أدواته وتاريخه وأسلوبه وميوله، لكن الوعي بالمأساة هو ما جمعنا هنا، وهو ما جعلنا نعمل على مواجهته وتفسيره، رغم اختلافاتنا الأسلوبية والثقافية. مبيناً أن الاشتراك في إنجاز المشروع، يعني إنتاج خطاب ثقافي يتجاوز جماليات العمل الفني التقليدي، من أجل تقديم رسالة إلى الإنسانية ترفض القتل والإبادة والتناحر الطائفي، في ضوء استعمال المكان، وهذا يعني الأدوات المادية ووسائل الاتصال المعاصرة وكل ما يقع تحت ممكنات الفنان ومخيلته.
موضحاً أن العمل الفني في لحظات الحرب والأزمات الوجودية الكبرى يصبح بديلاً عن الحياة. «لقد كنت أغوص في عالم من العدمية المطلقة وأنا أوزع عينات الفحم على الناس، كما لو أنها عينات جسدي التي تفحمت في محرقة الكرادة، هل لي أن أتساءل عن الفارق بين الموت والحياة، بين أن تعيش وأن تذوب مثل الملح؟ أعتقد أن كلا الأمرين أصبحا متشابهين، فيا لها من مأساة تنتهي فيها الفوارق إلى الأبد».
وفي هذا يقول الفنان محمد عبد الوصي شريك المعموري: لا أستطيع استخدام اللغة لترجمة المحرقة بحدثها المؤلم.. أنا أصمت الآن، أستطيع أن أثبت جسدي لساعات مكان الحادث.. كي أشاهد الأرواح بجسدي وأنا لا أتحدث الآن.
عرض هذا العمل الأدائي في الفضاء الخارجي، في فسحة كانت الأرواح تتطاير حول المكان المحترق، فضلاً عن جزء منه داخل البناية، في الفتحات التي أحدثها الانفجار وثقوب الأرضيات التي دُكَّت بين طوابق البناية الكبيرة. كانت عروض التشكيل والنحت تترامى وسط البناية، وكأنها تقيم مكان الضحايا، بين أبواب المحال التجارية، وكراسي المقاهي، حتى كأنك تسمع موسيقى السمفونية التاسعة لبيتهوفن تعزف من قبل 300 إنسان لا يعرفون لماذا سحبتهم السماء عنوة من أياديهم..
الفنان محمد مسير يقول عن مشاركته في هذا العرض: كان لابد لنا من هذا الموقف.. أن نوثق، أن تكون لنا كلمة نقولها إزاء هذا الحريق الجارف للإنسانية، لأنني أعتقد بأن أصحاب الفكر والفن هم من يكتبون قوانين الأرض ويضعون أسس الجمال، هي مسؤوليتنا إزاء التاريخ والإنسانية.
في حين شاهد الفنان محمد ديجان الحادث المؤلم من جانب آخر، «ليس البكاء والشموع، والجثث… وإنما الأحاسيس، والمشاعر التي تركها الانفجار أو الحريق. في المكان شعرت بالدرج عيناً وشاهداً على فرار الناس وتلاطمهم للبحث عن الخلاص.. كان الخلاص رحيل أرواحهم للسماء، أخذته كرمز للرحلة الى الله، بعد أن خذلتهم الأرض». قدَّم ديجان عملين في المكان نفسه، الأول يشبه الصمت، والثاني وردة فوق الأنقاض.. فثمة أمل هناك دائماً.
فيما يرى الفنان وضاح مهدي أنه في حياة الإنسان هناك تفاصيل كثيرة منها المفرحة ومنها الحزينة. «أتذكر حينما كنت صغيراً، عند حلول مناسبة العيد كان الأهل يشترون لنا نحن الصغار (ملابس العيد) وكنت أضع الملابس الجديدة جنبي حين أنام وأنتظر طلوع صباح العيد لكي ألبسها. إنه شعور لا ينسى وهذه واحدة من التفاصيل الجميلة المفرحة. تفجير الكرادة قتل هذه التفصيلة المفرحة لدي، لكنني حاولت أن أحول الدخان الأسود على ملابس العيد إلى دخان أبيض. لانني مؤمن باستمرار الحياة. عملي (ملابس العيد)».
أما الفنان رضا فرحان فيشير إلى أن الفاجعة أكبر من أن يجسدها الفنانون بعمل، فالكرادة فاجعة العراق، لذلك كانت الأعمال قريبة من أرواح الذين رحلوا، ربما أصبحوا هم المتلقون، بأحلامهم، بأمانيهم، بطفولتهم وشبابهم.. «حاولت أن أعبر عن الموت بهذه الدمية المحروقة التي هي عبارة عن هدية طفلة كانت تحتضنها قبل أن ترحل إلى السماء وحولها طيور الحوم التي تفتش عن بقايا الموت بعد الحروب ورمز الوحشية على أجنحة الطيور السوداء». غير أن الفنان رياض هاشم كان يمثل كل ضحايا التفجيرات في العالم بغداد، نيس، لندن، اورلاندو.. فالإنسان لديه هو نفسه والضحية واحدة مهما اختلف المكان والزمان، والقاتل واحد أيضاً… «عملي الفني جاء مجسداً لمقولة أحد شهود ضحايا الكرادة (رأيت موتي بعيون الموتى)».
وحين دخلت الفنانة نادية فليح المكان أحست بشعور غريب وكأن أرواح الضحايا ما زالت تحوم هناك، هذا الشعور تعاظم لديها بعد نزولها القبو ورؤيتها لتلك الشموع التي أوقدت فيه، وكأن الزائرين كانوا يواسونهم فيها، تلك اللحظه ولّدت لديها فكره عملها، وقد «تمثَّل بجذع إنسان على شكل شمعه بالحجم الطبيعي، لف بقماش أبيض بمثابة الكفن، الشمع يذوب وينتهي ببطء وبصمت، وكذلك الإنسان العراقي… الحياة هنا تنتهي بشكل بطيء وصامت دائماً».
ومن وجهة نظر الفنانة ضحى الكاتب، فهذه المحرقة كان وقودها أحلام وأمنيات وقلوب بشر.. كما نالت من أجساد الذين قضوا فيها وذرتهم رماداً من دون روح، نالت من أرواحنا وألقمتها الوجع .. «صرختي كانت بلغتي التي أجيد مفرداتها، وعملي ترجم أحد مئات القصص التي حدثت تحت لهيب النار في ليلة الفجيعة، محتجزون في مصعد معلقون كتميمة بين السماء والأرض ومحاصرون بالجحيم التصقت الأرجل بالحديد وظلت الأيدي تحاول الصراخ والنجاة حتى صمت كل شيء».
في حين يقول الفنان محمد القاسم: أن تكون في مكان الحدث، تحضر إلى الذهن صورة الموت لأشخاص لا تعرف أسماءهم وطبيعة عملهم أو كيف يضحكون في لحظات السعادة، بدلاً من ذلك تبقى صورة موتهم بطريقة بشعة ومؤلمة حاضرة ومهيمنة، صورة لها سلطة الحضور، حتى أنها تكشف لنا صورة موتنا المتخيل، دائماً أتصور المكان بعد الحادث أشخاصا يدفعون عربات لنقل أشلاء الأجساد، إذ بعد كل انفجار تحدث عمليات تنظيف وكأن السلطة تقول ليس بإمكاننا فعل شي سوى تنظيف أماكن الخطأ (العربات وطن أخير للضحايا) وهو عنوان العمل.
وفي تعليقه على هذا العمل الفني الجماعي، تحدث الفنان كريم رسن عن الأعمال المعروضة والعمل الأدائي، قائلاً إن هذا المعرض كان من المفترض أن يستمر لأيام وليس ليوم واحد فقط، لإتاحة فرصة أكبر لمشاهدته والتفاعل معه من قِبلّ الجمهور، ولقاء الفنانين المُشاركين لسماع وجهات نظرهم الفنية حول الموضوع. لاسيما وأن ذلك العرض، هو من أول المشاريع الفنية التي خرجت عن نطاق المألوف في العرض الفني. لكن في مدينة مثل بغداد لا يمكن تحقيق ذلك على الإطلاق، لعدم توفر الضمانات الأمنية اللازمة.
مضيفاً: على الرغم من أن المكان الذي تم فيه العرض الفني لا يزال يبعث على الرهبة في النفوس في حال الدخول إليه، وجدرانه لا تزال تبث طاقة تعبيرية عالية، تستحوذ على أي فعل أو عمل فني يُراد من خلاله التعرض إلى هذه الكارثة الإنسانية، وتقديمها بوقّع درامي يتضمن الأداء المفاهيمي والدلالي الرمزي أو حتى الواقعي، من أجل تقديم تصورات تقريبية عن تلك الجريمة البشعة واستنكارها… لكن مع الجهد الفني الجماعي لهؤلاء الفنانين، المشحون بالعاطفة والحماس، استطاعوا أن يُقدموا معرضاً فنياً، أستطيع القول بأنه ناجح ومُؤثر ومختلف عن عروض فنية أُخرى، على الرغم من الإمكانيات الفردية البسيطة المُتاحة لكلٍ منهم، والخبرات الفنية التنظيمية المتواضعه التي كان من المُفترض أن تكون على وجهٍ أفضل مما هي عليه، فيما إذا كانت هناك مؤسسة أو واجهة راعية وداعمة لهذا المشروع الفني المميز.
كما أن الفنانين المشاركين في هذا المشروع ذوو اختصاصات فنية مختلفة، رسامين ونحاتين وخزافة أيضاً، ومُشتغلين في مجال الإداء الفني الصامت. بعضهم ظل مُتمسكاً بفعل الاختصاص (الرسم على سبيل المثال) وإمكانيات تأثيره على المُتلقي بشكل مباشر. والبعض الآخر تخلى عن ذلك تماماً، ليحقق نقلة نوعية تفاعلية مع المكان وما يبثه من طاقة تعبيرية، ليُقدموا أعمالهم بأداء فني وكأنها جزء من موجودات المكان المتروكة بعد الحادث، لكنها هنا ذات دلالات رمزية ومعانٍ أخرى لوظيفة استخدامها. مثلاً: خراطيم المياه المُخصصة لإطفاء الحرائق ومعدات أخرى ملازمة لذلك. كذلك، الاستفادة من موجودات المكان كمواسير المياه، إذ رُكبت في إحداها خراطيم صغيرة شفافة يتدفق منها سائل أحمر قانٍ بدلاً من الماء نحو حاوية بلاستيكية لحفظ الدم، في إشارة رمزية واضحة إلى دماء ضحايا الحادث التي أُريقت تحت سقف ذلك المبنى. كذلك، محاكاة للموجودات المضافة على المكان لاحقاً، التي تمثلت بلافتات النعي المُحملة بصور لضحايا الحادث، حيث يقاربها في التماثل، أحد أعمال التنصيب الذي اعتمد صور الفوتوغراف المُتكررة لشخصية واحدة ذات تأثيرات مختلفة تحمل دلالات رمزية، أفترض إنها تشير إلى ضحايا الحادث. كذلك أيضاً، هنالك بعض الأعمال التي اتسمت بالطابع التجميعي الذي يعتمد مادته الأولية في الجمع بين النحت وأشكال تحاكي موجودات عينية، كانت أصلاً كمعدات وإكسسوارات في واجهات المحلّات التجارية، مثل المانيكان المُخصص لعرض الملابس، وموجودات أخرى مثل الملابس ولُعب الأطفال، جرى الاشتغال عليها بتصعيد عال وبوقّع درامي مثير للاهتمام وكأنها متأثره بفعل التفجير والاحتراق فيما بعد.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى