«عطر الخيانة» للمغربي عماد الورداني: من اللاحكاية إلى الحكاية

خالد البقالي القاسمي

عن مطبعة عكاظ الجديدة ومنشورات اتحاد كتاب المغرب صدرت في مدينة الرباط سنة 2013 مجموعة «عطر الخيانة « القصصية للمغربي عماد الورداني، وهي فائزة بجائزة اتحاد كتاب المغرب للأدباء الشباب في دورتها التاسعة، وتتشكل المجموعة من أربع وسبعين صفحة متوسطة الحجم، وتضم سبع عشرة قصة.
عادة نعرف الخيانة بنقيضها، وهي طريقة الصوفيين غالبا، بعكس المنطق الأرسطي الذي يعتمد الهويات المستقلة، إن الوفاء عبارة عن ذات وموضوع وهو بارز في الضوء، بينما الخيانة موضوع ينشط في العتمة والدهاليز، وعطر الورداني يفضح هذه الخيانة عندما يفوح وينتشر عبر الكتابة والإبداع من داخل عناصر ومكونات الحساسية الجديدة، وسنحاول قدر الإمكان تتبع بعض معطيات وقضايا حكايات المجموعة.
لقد كانت نصوص المجموعة مباشرة بتوظيف المبدع لضمير المتكلم، وأحيانا قليلة كان يوظف ضمير الغائب، وعن طريق الحكي الذي هو عنصر إقناع وتفسير استنبت المبدع جغرافية متخيلة كمكان خارج الذات، وجغرافية النص هي كلماته، وكلماته هي التي ترسم خرائطها الخاصة، لقد استحضر المبدع رموزا ودلالات ثاوية في عمق التاريخ والأسطورة «إيفريس»، و«ماتياس»، و«العرافة تودا». وعمل على ربط عبق التاريخ والأسطورة بالألوان، الألوان لدى المبدع لها روائح تمتزج بالموسيقى لكي تعزف سيمفونية غريبة ترسخ لدينا أن الورود والألوان والروائح تعيش بالحكي، لكل منها حكاية، ولكل إحساس وردة ولون ورائحة، فالكل يرفل في نعيم الأحمر والأبيض والأصفر، والكل يطرح سؤاله، والسؤال يقض المضجع، والسؤال سبب في الإحساس بالذنب يدعو إلى قبول الواقع كما هو، في التحلل من الأسئلة راحة، وتطور الواقع هو الذي شوه الروائح والألوان وزيف حقيقتها وأنتج العنف النفسي والمشاعر المضطربة والحزن والكآبة، وتظل المرأة حاضرة كلغز غامض تثير المشاكل وتعقد الوجود.
إن الوردة التي تنتظر ولادتها في العراء استعارة للأنثى الحسناء، والمرأة المشتهاة، وفي عدم استنشاق أريج الوردة موتها وفناؤها.
في مقابل الألوان والروائح توجد الأصوات، إنها أصوات رواها ضمير المتكلم وهو يحكي طقوسا نسائية وعظية وروحية، الأصوات تعشق الله حبا لا خوفا مستظلة بظلال الصوفية ومستندة إلى منهج العاشقة الإلهية «رابعة العدوية». لقد عملت هذه الأصوات على صناعة الألم الروحي واسترجاع مكامنه العميقة في النفس البشرية من خلال التعريج على معاني الموت المؤقت والمؤجل المصاحب بالمرارة، من خلال مفارقة الروح للجسد ثم مصالحتهما من جديد وفق طقوس الشيوخ التي تستند إلى روائح لا يقبلها أحد، ويحدث هذا أمام العي والإحباط في فهم الأحوال والمقامات التي تم تشييدها بأصوات لا تشبه الأصوات.
لقد عمد المبدع عماد الورداني عن طريق توظيف ضمير المتكلم إلى صناعة الحكايات من اللاحكايات عن طريق الحركة، فصنع الانكسارات، وساهم في ترتيب الخسارات، لقد كتب عن طريق احتضان الرمز، الرمز الذي يصنع الاستيطيقا، وعن طريق الكتابة السردية المتعرجة التي تنأى عن البوح الخطي المباشر، عمل المبدع على تجميع الألوان والروائح والأصوات من أجل صناعة المتخيل والمنساب والمنفلت، إن حكايات المبدع المدعمة لنصوص المجموعة حكايات تتجه إلى العوالم الداخلية، فهو يثير موضوع الموت مجردا، ثم الموت بعينه، ثم الموت برائحته فقط، شخصية العجوز «شامة» في قصة «رائحة الموت»، يكفي حضور ظلها لإنتاج الوحدة واللوعة والموت. لقد اشتركت «شامة» هي وبقرتها في مشروع اللاجدوى، الإنسان والحيوان يشتركان في اجتراح الألم والذكرى وتذوق الروائح، ومن ثمة اجتراح الحكاية في عقر مهدها، والموت لا لون له لذلك لا تميزه «شامة»، لقد استحضر المبدع بهذه الشخصية مشكلة الأسئلة الحارقة التي لا تجد الأجوبة، وهذه واحدة من الأزمات البنيوية التي تعاني منها الثقافة العربية لدينا، إن موقف «شامة» المتدرج عبارة عن انهيار للوجود. في الموضوع يتم استحضار الأنا والهي، إن السياق يحمل لنا كسر الأنثى، وكره الذكور، مع الإسهام في تمجيد قلاعهم الحصينة عن طريق الانسياق في استباحة تجربة الجسد العاري المكشوف، وفي هذا تراكم لانكسارات الأنثى وقمع طموحاتها مع تجربة الليل والسهر وإحياء الحواس من قتل طويل ومتراكم، والحل هو القتل الرمزي للأب وتكسير الصنم العربي « للبطريركية « والخروج إلى الفضاء والحرية، هذا الخروج القسري يتم بواسطة الصلح مع روائح الحواس، وفيه عودة إلى الأصل والطبيعة.
لقد اختار الكاتب أن يبني حكاياته عن طريق العطر، والعطر لديه طريق إلى الخيانة، ولتكريس هذه الخيانة اختار لها اللون الأحمر القاني، وتمر هذه الخيانة بالتأكيد عن طريق الحكاية، والحكاية تؤدي بدورها إلى الخيانة على غرار «الترجمة خيانة»، ورمز هذه الخيانة هي «فينوس» الجديدة التي ليست إلا الحكاية الجديدة التي خرجت من رحم اللاحكاية، وتم تصنيعها في معبد الروائح التي تتجمع وتتشابك وتصنع لنا الحكاية، إن الخيانة هشة للغاية، هشاشتها تتجلى بوضوح وهي تتحول إلى خيال ثم تخييل يصنع الحكاية.
عندما اختار المبدع أن يكسر وتيرة ضمير المتكلم، انتقل إلى ضمير الغائب، حيث غاب في أتون غربة تجر إلى الوحدة والبرودة عبر زمن منكسر يستنفد الوجود ويفنيه، يتحول الوجود إلى زمن سحيق ضمن التلاشي بلا صوت، بلا لغة، بلا إحساس بالجسد، فتسود اللغة الحارقة من خلال الفتك والإحراق وطريق الخطيئة وموت الذات والخلاص من العار والذكريات الأليمة، وعبر هذا الزمن المتلاشي تمنع الأسئلة وتقمع في عمق تغريبة تطول ولا تريد أن تنتهي، تلتف أسئلة الوجود منهمرة ومتناثرة فتشكل الحكايات طوق نجاة من المصير البشع والمحزن. ويعود المبدع مرة أخرى إلى ضمير المتكلم، حيث يعتقد أنه يستدرك الإمساك بزمام الأمور من جديد، ففي حكاية «الطريق إلى النور»، يعود الأمل من خلال النور الذي يشع على جسد متهالك دمرته اللحظات، وهو نور وهاج تجسد في صورة ضوء منتشر حقيقة وليس حلما، إنه نور السالكين الذي يتلاشى داخله الزمن وهو النور الحقيقي إذ هو طريقهم ومصدره الروائح المتميزة التي لا يقبلها أحد غيرهم، وامتداد النور عبر الزمن والخيال والوهم هو الذي ينتج الحكايات.
مجموعة عماد الورداني كتابة جديدة لافتة، فيها سرد وحكي متعرج، فيه نوع من المغايرة، وفي المغايرة يكمن الإبداع، حكي المبدع يسير بخط تصاعدي إلى الأعلى يحمل الألم، والتمزق والقلق الوجودي الحاد، ثم يبدأ في الهدوء والاستقرار والنزول إلى القاع. تنامي النصوص يتشكل حسب الروائح والألوان والأحاسيس، تتحدد الحكايات ضمن الذات المتكلمة وفق متواليات محددة ومحسوبة، وهي تنحو نحو الإشباع والامتلاء. تثير الحكايات عدة قضايا وامتدادات منها: قضية فيها نقاش يتعلق بتحويل الواقع الغيري إلى متخيل أصيل، حكي يمتح من متخيل الغير. السؤال سبب في الإحساس بالذنب وجلد الذات، المقصود هو الابتعاد عن طرح الأسئلة وقبول الواقع كما هو، إنها القدرية المطلقة في جغرافية مستباحة. قضية كلامية تبناها الصوفية، وهي عشق الله في ذاته، وهو منهج رابعة العدوية. قضية الأسئلة التي لا تجد أجوبة، وهي واحدة من الأزمات المتجذرة في الثقافة العربية.
قضية تراكم وتوالي انكسارات الأنثى، وقمع طموحاتها، والقتل الرمزي للأب، وتكسير البطريركية. قضية صناعة القيادة، المركز والمحيط، التبعية والاستقلالية. قضية الأصل والنسخة، الوراثة والامتداد. قضية الحكايات حركة، استنفاد الحكايات موت وسكون وهدوء وخضوع، صورة شهرزاد الكامنة في أعماق كل مبدع.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى