فريدريك بازيل وفجر الانطباعية

أسعد عرابي

يقيم «متحف فابر» في مدينة مونبيليه المتوسطية في الجنوب الفرنسي معرضاً بانورامياً للفنان الإنطباعي فريدريك بازيل، وهو ولد فيها عام 1841 وتفتخر بذلك المدينة بسبب شهرته التي تتصاعد يوماً بعد يوم، وكشف دوره الرائد المخفي في فترة شباب تأسيس تيار الانطباعية، وتبشيره بمبادئها وعقائدها التشكيلية حتى قبل كلود مونيه. يستمر العرض حتى أواخر تشرين الأول (أكتوبر)، ينتقل بعدها إلى متحف أورسي في باريس مستمراً إلى مطلع العام المقبل.
يعيد المعرض إذاً، حق فناننا فريدريك بازيل كرائد للانطباعية، وأول مبشّر واثق من أن التصوير يرتبط بألوان الهواء الطلق والطبيعة. لأن ظلالها ملونة وليست متفحمة كما يظن الكلاسيكيون الذين لا يغادرون كآبة وافتعال محترفاتهم في القصور المعزولة.
يبدأ المعرض بإضاءة ما خفي من سيرة هذا الفنان: منذ ولادته في حضن الشمس المتوسطية، وضمن مناخ تربية عائلته البروتستانتية المحافظة الموسرة والغنية الأرستقراطية أو البرجوازية، مما هيأ له أفضل مستوى من التعليم ما قبل الثانوي وما بعده (في المعهد التربوي)، لكنه قرر مع والديه أن يسافر إلى العاصمة باريس ليدرس الطب، لكنه سرعان ما اتجه إلى الفن، بخاصة لأن بوادر هذا الميل الموهوب كان سابقاً لسفره وأنه كان يختلط بجماعة الباربيزون ويشاركهم رسم المناظر في هذه الغابة، متأثراً بأسلوب المعلم الواقعي غوستاف كوربيه، مؤسساً محترفه الرحب على طراز نظيره المصور في لوحة كبيرة معروفة بعنوان «المصور والموديل» صور فيها كوربيه عالم محترفه بما فيه مرتادوه من الكتاب والمثقفين والمقتنين.
فرض بازي ثقافته وشخصيته بسرعة في الأوساط النخبوية الباريسية، وسرعان ما شكل الرباعي الانطباعي التأسيسي الأول منذ وصوله باريس عام 1861 وهم كلود مونيه وجوستاف رنوار والفريد سيسلي وكان هو على رأس المجموعة يتمتع بشخصيّة وسيمة قوية، عملاقاً فارع الطول، رسم نفسه عن المرآة مرات. وكان يستلهم من المناظر الحية الألوان على طول الشاطئ اللازوردي المتوسطي، ما بين مدينة طفولته وبلدات الكوت دازير كأنتيب وفالوريز (مدينة السيراميك التي اشتهرت مع بيكاسو). وإلى الداخل قليلاً قريباً من فان غوغ وسيزان في اكس – أند – بروفانس وجبل فيكتوار. كان متفوقاً في اختيار ألوان البورتريه، وكذلك تكوينات السباحة العارية: واحدة منها تدل على ريادته وجرأته. استخدمت في معرض طليعي في القصر الكبير بعنوان « مذكر – مذكر»، ولأول مرة يصور أجسام السابحين الرياضيين الذكور وتبعه سيزان في ما بعد، فالجسد البشري بالنسبة إليه ماهو إلا ساحة للانعكاسات اللونية بخاصة في البحر وتحت الشمس.
لعل أشهر مجموعاته ذات التكوينات الحيّة والمتماسكة وبقياس رحب هي مجموعة صور فيها عالمه العائلي في الحديقة وواحدة من أشهرها من ممتلكات متحف أورسي، الذي كانت له اليد الطولى في تهيئة المعرض. سيق في ذروة نجاحاته المهنية إلى الخدمة العسكرية فاستشهد بعد فترة أشهر في تشرين الثاني (نوفمبر) من عام 1870 ولم يكمل التاسعة والعشرين من عمره، خلف موته صدمة كبيرة في الوسط الفني فسمي شارع وأحد الأحياء في مونبيليه باسمه: «فريدريك بازيل»، وهو حي مركزي عامر بالدكاكين والمحلات الشهيرة، هو ما يذكرنا بعدد من الفنانين الذين قضوا في الحرب مثل التعبيريين الألمانيين فرانز مارك وماك. جورج براك كدنا نفقده فقد أقعده جرح رأسه أكثر من عام عن العمل وغيرهم كثر.
لعل هذه الحادثة المفجعة تفسر تواضع شهرة بازيل فقد ترك ميراثاً من خمسين لوحة فقط، إضافةً إلى عدد من الرسوم التحضيرية البديعة، يعانق المعرض الراهن 45 منها، لعله من الجدير بالذكر أن بعض لوحاته لا يقدر بثمن لشهرتها التي تملأ الآفاق، لأن كل منها بالغ العناية.
يتيح تسلسل العرض كشف موهبة خارقة في التلوين والرسم واستحواذ إضاءات معاصريه الأسلوبية، ابتداءاً من الألوان الترابية لجماعة باربيزون والمعلم كوربيه، نعثر في مناظره المشحونة بالألوان الصريحة بصمات كل من كلود مونيه ورُنوار وإدغار ديغا، وبخاصة إدوار مانيه منذ بدايته، ولعل من الجدير ذكره أن مانيه اشترى محترفه من الورثة حفاظاً عليه، وظل يعمل فيه حتى وفاته.
تبدو موضوعاته بالغة التنوع بعضها استشراقي على غرار دولاكروا، وهو في الطبيعة الصامتة أصيل وملغز كما هو صحن السمك الثنائي القريب من التجريد، كما تعكس باقة لوحاته البانورامية العائلية مناخ تربيته الأرستقراطي، بما فيه بعض بورتريهات كبار القواد والضباط أصدقاء العائلة، لذلك دفن في المقبرة البروتستانتية في مونبيليه، مما رسَّخ حضور ذكره في كل مكان في مدينته الأم.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى