لغة الحيوان غير الأسطوريّة

توفيق قريرة

في المخيال الشّعبي الإسلامي القديم والحديث شيء اسمه «منطق الحيوان» مفاده أنّ الحيوانات كانت تتكلّم في مرحلة من مراحل وجودها القيم و أنّها حُرمت، ولأسباب مختلفة، من لغتها.
في القرآن الكريم سند يمتّن هذا الاعتقاد الشعبيّ، فنبيّ الله سليمان منحه الله القدرة على فهم لغة الحيوان ومحاورتها. وكثير من الأدباء في العالم ألّفوا قصصا وحكايات رووها على لسان الحيوان نثرا أو شعرا (ولكن بلغة البشر طبعا) تعرف باسم «الفايبل» أشهرها عندنا «كليلة ودمنة».
المهمّ أنّ لغة الحيوان صارت مقبولة عندنا لأنّها جزء من الأسطوريّ أو الديني أو العجيب؛ لكنّ اللسانيّين يتحدّثون فعلا عن «لغة الحيوان» باعتبارها شيئا له وجود غير أسطوريّ وله ما يثبته في عالم المُدركات الحسيّة.
يرى بعض اللسانيّين أنّ عبارة لغة إذا ما أسندت إلى الحيوان كانت مجازيّة لأنّ اللغة الحقيقية هي اللغة البشرية، وما سواها من لغات الزهور أو الحيوان إلا مجازات لأسباب لسانية يطول شرحها ولا تعنينا هنا كثيرا. غير أنّ آخرين يعتقدون أنّ للحيوان لغات حقيقية تتواصل بها وتتفاهم، فعلى سبيل المثال تذكر لغة النّحل في هذا المجال وهي لغة مركبة من علامات صوتية وحركية تستدعي لإتمام التواصل بها، قدرة على معالجة الأصوات والروائح والحركات، فلقد بيّن علماء الحيوان من أمثال العالم كارل فون فريش ( 1886 – 1982) أنّ نحل الاستكشاف حين يعود إلى الخلية يقدّم معلومات وظيفية عن مصدر الرحيق: الاتجاه والأبعاد ونوعية الرحيق.. ويوصل معلوماته بأشكال تواصلية مختلفة يدخل فيها الصوتي والحركي وغيرهما من العلامات. الملاحظات حول السلوك اللغوي للحيوان هي جزء من العلم الذي يصطلح عليه بـ»إيثولوجيا» ويعني دراسة سلوك الأنواع الحيوانية في محيطها الطبيعي توحي بأنّ هناك تفاهما بين الأنواع الحيوانية يشبه تفاهم النوع البشري باللغة وبغيرها من العلامات.
دخول الإنسان إلى عالم التواصل الحيواني بالملاحظة والاستنتاج ليس جديدا ولقد أشار إليه الجاحظ حين قال عن الطير «ولها منطق تتفاهم به حاجات بعضها إلى بعض» (الحيوان 7/56) وهو ممكن ومتاح؛ لكن الدخول إلى التواصل معه بنظامه ما يزال من أمر المعجزة التي تتجاوز نطاق العلم ولا يعنيه البت في إمكانها أو استحالتها.
نحن إلى اليوم نمارس ضربا من التواصل الخاصّ مع حيواناتنا الأليفة، فلنا أصوات معيّنة نصدرها لدعوتها أو لزجرها.. تختلف باختلاف كلّ بلدة؛ وتشهد كتب النحو القديمة على أنّ أجدادنا كانوا يستعملون الأصوات المختلفة في زجر الحيوانات أو في مناداتها، وأن تقبل علينا قط لأننا ناديناها بصوت مخصوص يستعمل لها أو حتى باسم لقبناها به لا يشبه البتة إقبال طفلنا الصغير حين نناديه باسمه؛ فالقط يقبل بمفعول العادة والطفل يقبل بمفعول المواضعة، وفي الأمر فرق كبير.
ينبغي أن نميّز بين الأصوات في مستواها الفيزيائي الخام وبين إدراكنا السماعي لها. تبدأ اللغة بإدراك تلك الأصوات وتقطيعها والتعامل معها على أنّها شيء دالّ ويبدأ التواضع بين البشر على استعمال أصوات معيّنة في دلالات معيّنة؛ غير أنّ تعاملنا مع الأصوات الحيوانية لا تواضع فيه، بل فيه ضرب من الاستدلال: أي أن نستعملها في إقامة الدليل على شيء خارج عنها. والأمثلة على هذا كثيرة أشهرها استعمال أصوات الديك في تقريب مواقيت الصلاة، وليس هذا من محض الصدفة طبعا بل لأنّ التجربة نبّهت إلى أنّ هناك تزامنا بين موعد صياح الديكة وموعد الصلاة. وفي هذه الحالة فإنّ نوعا من أصوات الديك في وقت معين هو المعتبر لا جميع أصواته الأخرى؛ ويشبهه أيضا صياح الكلاب ليلا تنبيها لوقوع حدث أو لقدوم غريب فهذه الأصوات في وقت معلوم دالة على جملة من المعاني.
وأن يكون الحيوان في سلوكه دالا فهذا داخل ضمن ما يعرف في اللسانيّات بالمؤشّر. المؤشّر هو واقعة يمكن أن ندركها حالاّ تجعلنا نفهم منها شيئا عن شيء آخر خارج عنها كأن أرى من خلال نافذتي المغلقة غصن شجرة يتحرك فاعتبره مؤشّرا على وجود ريح؛ أو أن أرى على رمال الشاطئ آثار خطى فأفهم أنّ أحدهم مرّ قبلي من هناك، لكن لا الغصن تحرّك بقصد أن يعلمني بوجود الريح ولا الماشي مشى على الرمل ليخبرني أنّه مشى هناك قبلي. فالتواصل في المؤشّرات غير مبني على وجود نية مسبقة على حدوثه، وهذا ما يختلف به المؤشّر عن الإشارة التي يتمّ بها التواصل العادي؛ فمن يضع في الطريق علامات المرور ينوي أن ينبّه بها الناس إلى منعرجاته ومنحنياته وغيرها ممّا أرادنا واضعوها أن نتنبّه إليها. ومن تكلم معنا بالعلامات اللغوية كان ينوي أن يخاطبنا بما ينوي أن يعلمنا به؛ غير أنّ الديك حين يصيح لا ينوي أن يخبر أحدا باقتراب وقت الصلاة، ولا أنّ الكلاب حين تنبح في نيتها أن تخبر صاحب البيت بأن لصّا موجودا في الخارج؛ لذلك فإنّ اللغات البشرية والعلامات التي يتواصل بها الناس اليوم مبنية على إشارات فيها نية مسبقة بوجود تواصل، بينما لا وجود في «لغة الحيوان» لهذه النية، لذلك هي مبنية بالمؤشِّرات مثلها مثل أيّ صوت طبيعي أو حركة طبيعية نفهم بها شيئا خارجا عنها من دون سابق إضمار بوجود تواصل.
إنّ علاقة البشر العاديّين بما يسمّى لغة الحيوان هي علاقة استدلال: هم يستعملون لا أصواتها فقط، بل حركتها أيضا في إقامة الدليل على شيء خارج عن حركتها وصوتها؛ وهي تصدر تلك الحركة لم يكن في نيتها أن تخبر أحدا بما فهم ولا كان في نية من فهم عنها من البشر ما فهم أنّها ستفعل ذلك بقصد مسبق إلى أخباره بما تخبره عنه. ونحن نجد في القرآن ما يدلّ على أنّ الحيوان بسلوك ما من سلوكه يمكن أن يكون دليلا أو مؤشّرا فلقد جاء في سورة سبأ ( 14) قوله تعالى متحدّثا عن إعلان الدابة موت النبيّ سليمان: «فلمّا قضينا عليه الموتَ ما دلّهم على موته إلاّ دابّة الأرض تأكل مِنْسَأته». ليس أكل الدابة وفعلها إلا سلوكا وما يسمّى بلغة الطير هو أيضا سلوك يمكن أن يتعامل معه على أنّه دليل مدلوله ليس في نفسه، بل في شيء خارج عنه.
هذا حدّ علم اللسان فيما يسمّى بـ»لغة الحيوان» أمّا فهم النبيّ سليمان عن النمل ومحاورة الهدهد فيتجاوز هذه الحدود. إنّه أدخل في الخارق الذي لا يتمتّع به البشر العاديّون في تواصلهم اليومي، فهو كما وصف في القرآن «فضلٌ مُبين»، لكن من الناحية العلميّة يمكنك أن تتكلم بمحضر حيوان فيسمعك وقد يفوقك في القدرة على سماع الأصوات ذات الذبذبات المنخفضة أو المرتفعة، فلقطّك وكلبك قدرات في التقاط سمعه لأصوات أكثر منك، ولكن السلحفاة أقل قدرة منك على ذلك.
هذا أقصى ما في القصة أمّا أن تتفاهما بالأصوات فتقول هي وتفهم أنت ما تقول وتتحاوران فليس إلى ذلك عبر العلم من سبيل لأنّه ليس في الوقائع ما يؤيّده.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى