جوخة الحارثي تحول «الندم» عقدة روائية

أحمد زين

تهجس رواية «نارنجة» (دار الآداب) للكاتبة العمانية جوخة الحارثي، بصيغ وأشكال فنية جديدة، فهي رواية لا تكتسب فرادتها من الأحداث التي تسردها، إنما أيضاً من الشكل الذي تأخذه بنيتها، إذ تعمد الكاتبة إلى ابتكار طريقة في التعاطي مع فيوض الذاكرة، وبالتالي ووفق هذا المنظور، فهي رواية لا تنظر إلى الماضي بصفته حدثاً انقضى، إنما زمناً مستمراً يمكن التلاعب به والتحكم في سيولته، أي ماضٍ يستأنف نفسه عبر متوالية من التساؤلات وفيض من مشاعر الندم والتحسر. تخلص «نارنجة» الماضي من ماضويته، تمسرحه أو تعيد تمثيله في مشهدية لا تنقصها الحيوية، فيصبح النص ليس فقط كشفاً واستكشافاً لمجتمع وتاريخه وشخصيات ومآلاتها، إنما أيضاً استبطاناً لذات تشعر بالعطب يزحف إليها.
تذهب الكاتبة الشابة في هذه الرواية الممتعة إلى تشظية الحكاية الرئيسية، عندما تلجأ إلى تكنيك يستبقي دوماً تفاصيل مهمة إلى اللحظة المناسبة. وترتب الحكي وفق منطق تتبعثر معه التفاصيل، وتتوزع الفصول التي تبدو من الوهلة الأولى مغلقة على نفسها، إلا أنه مع توالي الحكي تتكشف لنا قابليتها على الانفتاح، وهو ما يجعل الأحداث في «نارنجة»، على مأسويتها تغرق في جمالية آسرة، قوامها لغة كثيفة وسرد سلس، ينتقل بنا في جملة واحدة من زمن بعيد إلى زمن آخر قريب ومن مكان إلى آخر مختلف، من زنجبار إلى مومبي فعمان، جمالية تحرر الرواية مهما بلغت سوداوية أحداثها، من ثقل الماضي وسطوة التاريخ.
تنطلق «نارنجة» من تفصيل صغير تستعيده الساردة، التي هي هنا طالبة عمانية اسمها زهور تدرس في بريطانيا، تستدعي زهور إصبعاً مشوهةً للجدة التي ليست جدتها، استعادة تخالطها لحظات من الندم وشعور حاد بالتقصير. تسترجع زهور المطالب الصغيرة للجدة وتتذكر تجاهلهم لها. فهذه الجدة التي كانت موضوعاً لعطف جد زهور الذي يمت لها بقرابة، فآواها في منزله لتعيش بينهما هو وزوجته، ستهتم بالبيت وترعى شؤون الابن الذي سيصبح أباً لولد وأختين، إحداهن زهور. تنفق الجدة «بنت عامر» عمراً بكامله في تربيتهم والعناية بهم، من دون الشعور بأنها تفعل شيئاً خارقاً للعادة، فهي مقتنعة بأنها مجرد ضيفة، تقوم بالخدمة في مقابل ضيافتهم لها، إلا أنها عندما تشيخ لا تجد من يعتني بها. قبل ذلك بعقود، كانت الجدة تعيش في منزل والدها، عندما كانت فتاة صغيرة، قبل أن يطردهما، أخاها وهي، وسيرحل عنها أخوها باكراً، إذ لم يتحمل مشقة العمل صغيراً، فمات.
تتحول المشاعر التي تنتاب الساردة نتيجة إهمالها الجدة، إلى ما يشبه العقدة التي تمسك بخيوط الرواية وتوجه مسارات السرد، عقدة ستطبع الرواية بإيقاعها الذي سيبدو بطيئاً إلا أنه ليس كذلك، إذ إن تعمد التكرار والعودة إلى الحدث نفسه أو استرجاع التفاصيل عينها، دائماً ما يفتح النص على جديد لم نتوقعه. على أن ما ينتاب الذات الساردة من مشاعر الخزي والندم، بدا أنه يجد شفاءه في استرجاعات خاطفة لمشاهد وحالات، فما يبهظ هذه الذات يشكل في الوقت نفسه محفزاً لفعل التذكر، إذ تنفتح الذاكرة على عوالم وأمكنة وأزمنة يتسع معها التخييل وتتعقد طرق صوغه.
ومثلما تبدأ الرواية بتفصيل صغير، ستنتهي بالكشف عن أمور، لعل القارئ كان يتوقع كشفها في لحظات باكرة من النص، إلا أن استراتيجية السرد التي تبنتها الكاتبة تقتضي تأجيل تلك التفاصيل التي تخص والد الجدة إلى الخاتمة، مضيئة الدوافع وراء طرده ابنَه وابنته. أي أن الرواية تختار لحظة تمتد بعيداً في الماضي لتنتهي عندها، وليس في المستقبل حيث تدرس زهور في بريطانيا وتعيش في لحظة زمنية، تتداخل فيها شظايا الذكريات مع تفاصيل الحياة اليومية لطالبة عربية، تعثر على نفسها محاطة بخليط غريب من البشر، وتتقاطع الأحداث الصغيرة التي تتلاقى فيها الأزمنة وتفترق.
تختتم الرواية أحداثها بالكشف عن تفاصيل لا تخص والد الجدة، الذي طلبوه في لحظة مفصلية متقدمة في تاريخ عمان، للاشتراك بصفته فارساً وشجاعاً شجاعة نادرة في حركة الانفصال عن السلطان الذي يؤازره الإنكليز، وإعلان الاستقلال، فلم يرفض، طبعاً، طمعاً في المال. لكن الأب خاض حرباً خاسرة ضد السلطان، بل وحارب في صف من يخالفونه في المذهب فكانت النتيجة أن خسر كل شيء، وبالتالي اضطر إلى طرد ابنه وابنته.

مشاعر مضطربة
لا تكتب الروائية العمانية التي أصدرت من قبل «سادنات القمر»، غربة طالبة عربية في أوروبا، ولا تعبر عن نستولوجيا إلى وطن بعيد، إنما أيضاً تظل دائمة الحفر في عواطف ومشاعر بدت منسية، وعند استيقاظها تثير مواجع أليمة، تكتب عن تاريخ يتوزع حكايات وتفاصيل. تتراوح الرواية بين ماضٍ بلحظات متعددة، لكن المأساة توحدها، وحاضر على رغم ما يشهده من تغييرات يبقى مشدوداً إلى الماضي، فيما تبقى الجدة قاسماً مشتركاً بحكايتها التي لا تنتهي، فتنسل معها حكايات تنتمي إلى أزمنة تعود إلى الحربين العالميتين ثم حرب الخليج الثانية وما بينها.
في حاضر الرواية نتابع مع الساردة مشاعرها المضطربة، وأيضاً وهي تسرد تطورات الموقف بين زميلتيها في الدراسة الأختين الباكستانيتين اللتين تنتميان إلى أسرة أرستقراطية، فتتزوج واحدة طالباً باكستانياً يتحدّر من طبقة الفلاحين، وكيف أن أختها تشعر بالحرج من هذا الزواج. على أن الساردة تجد نفسها في خضم مشاعر جديدة تعيشها، من خلال تورطها على نحو غامض في حب هذا الطالب، الذي يبدو أنه لا يكترث للآخرين، إلا أنه في واقع الأمر، كما تكتشف هي، فضولي تجاه الآخرين، إنما في غاية التكتم والتمويه، وسيشملها هذا الفضول وسيوقظ فيها عواطف دفينة، لم تنتبه لها أثناء مطاردة الذكريات لها، ذكرياتها مع جدة، بقيت وحيدة في أواخر عمرها كما لم تتحقق أحلامها.

هيمنة الذات الأنثوية
من ناحية، تهيمن الذات الأنثوية على الرواية، ليس في معنى الانحياز الضيق للأنثى، إنما انهماكاً في توسيع البعد الإنساني من خلال الذهاب إلى تقصي ما تعانيه هذه الذات، وبلورة طموحها وأشواقها إلى حياة مختلفة. نساء جوخة الحارثي تنهض حيواتهن، على خلفية من أحداث ضمخت حيواتهن بالألم والفقد والعطب، نساء قانعات مستسلمات. تبدو زهور على النقيض منهن وهي تسأل وتتساءل. من سمية التي سيطلقون عليها الدينامو لفرط حيويتها، إلا أنها ستفقد هذه الحيوية بمجرد الزواج، فزوجها الذي يحبها لا يقبل سوى أن يكون هو المركز فيما هي تقبع خارجه، الزوج الذي سيموت غريقاً وستفقد هي صوتها وحيويتها إلى الأبد. إلى شيخة التي تنتظر ابنها الذي ذهب ولم يعد، مروراً بالثريا التي دفنت زوجين وستفقد الثالث، لكن بعد أن تكون حياتها مضت إلى أقاصيها. وتبقى الجدة هي أصل الحكاية ومنتهاها، الجدة التي ستعاني قسوة الطفولة ومرارة طرد الأب وفجيعة الأخ.
في المنفى الدراسي تنفتح الساردة على الآخر، في الواقع أكثر من آخر، آخر ينتمي إلى الغرب، جريء في تلبية حاجاته، وآخر شرقي متحفظ حيال عاداته وتقاليده حتى إن تخرج في أرقى الجامعات الأوروبية. وستتقاطع حياتها مع حيوات أخرى، فتكتشف أن لها رغبات تتوارى خلف أفكار تبهظ ذاتها وتدفعها بعيداً من تلمس حاجاتها الأساسية. في هذا الجو المنفتح تندفع إلى ترميم الذات، في محاولة أن تسلك طريقة جديدة لمواصلة العيش بعيداً من عقدة الذنب.
تصغي زهور إلى حركة وجودها في أرض الغربة، على خلفية صوت الماضي، في ما يشبه الاستعداد لمواجهة الحياة الجديدة التي تتهيأ للعودة إليها. في منفاها البعيد تهاجمها الأفكار والهواجس، حيناً تخطر لها فكرة موتها إذ يداهمها شعور طاغٍ بالفناء، وحيناً تعثر على نفسها تتراوح بين خيال سيربي قوة إرادتها وواقع سيشهم هذه الإرادة. يخطر لها أحياناً أنها في مصيدة، في انتظار فأرٍ سيقضم الشبكة حولها ويحررها، تزداد الشبكة إحكاماً بينما تنتظر قضمة الخلاص، بيد أنها لم تعرف أنها هي الفأر الذي تنتظره ليخلصها، وعندما ستعرف ستكون أسنان الفأر تساقطت.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى