هموم عربية وأفلام عن جيل أوروبي ضائع

محمد موسى

لعل مهرجان تورونتو المهرجان الوحيد في العالم الذي يواصل نشاطاته السينمائية في موقع واحد وعلى مدار العام، إذ حوّل منذ سنوات مركزه في بناية «بيل لايتبوكس» في شارع «الملك» في قلب مدينة تورونتو إلى «سينماتيك» حيوي ببرمجة غنية مزدحمة. وهكذا قبل أيام قليلة من انطلاق الدورة الأخيرة من المهرجان السينمائي (تُختتم يوم الأحد القادم)، كانت هناك تظاهرة خاصة بالمخرج السوري أسامة محمد، كما أن هناك وحتى نهاية العام عدة تظاهرات واستعادات سينمائية، منها واحدة بمناسبة مرور خمسين عاماً على عرض مسلسل الخيال العلمي «ستار ترك»، واستعادة لأفلام المخرج الألماني رينيه فيرنر فاسبيندر.
تنقلب حال بناية «بيل لايتبوكس» الفخمة والتي تضم عدة صالات سينمائية طوال عشرة أيام من زمن المهرجان، فتغزوها حمى النجوم الأميركيين والأوروبيين الذين قلما تجمعهم مناسبة سينمائية في أميركا الشمالية مثلما تفعل مدينة تورونتو هذه الأيام. كما تبدأ صفوف الجمهور في التشكل في الشوارع، خارج بنايات الصالات السينمائية التجارية، التي توفر صالاتها لأفلام المهرجان. يقود وينظم كل هذا «جيش» صغير من المتطوعين، ربما لا يتوافر في أيّ مهرجان آخر، يتألف من كنديين من كل الأعمار والإثنيات. والتعايش الإثني الناجح في كندا هو أمر يفخر به الكنديون وأمر يلفت الزائر للبلد ما إن يحط قدمه الأولى في المطار، فلا توترات عرقية هنا تشبه تلك التي تخيم فوق بعض المدن الأوروبية اليوم، وبرج بابل، أسطورة الشرق الغارق في دمائه اليوم، يتجاور سكانه المتنوعون اليوم في المدن الكندية العملاقة.

اغتراب وعنف
إذا جاز الحديث عن تيمة واضحة ترددت في عدد من أفلام المهرجان الأوروبية، فهي ستكون عن عنف وأزمات جيل من الضائعين الأوروبيين في القارة التي تُكبلها المشاكل في الوقت الحاضر، ويكتشف بعض سكانها أن «الجنة» التي كانوا يعيشون فيها تهتز وتنهار اليوم بفعل الأزمات الداخلية والخارجية. من جيل الضائعين، مجموعة الصبيان والفتيات اليونانيين في فيلم «حديقة»، باكورة المخرجة اليونانية صوفيا إكسارشو القوية، من الذين يقتلون الضجر في ملاعب الدورة الأولمبية الأخيرة في بلدهم، والتي ستمثل بالصدأ الذي أصاب حديدها كناية بليغة عن صحوة اقتصادية ووطنية غابرة لم يبق منها شيء. بأسلوب يقترب من التسجيلي، ترسم المخرجة مشهديات كابوسية حسية عنيفة لجيل لم يهضم الانكسار القومي بعد، ويتيه بعد أن ضرب الاضطراب في البلد بوصلته الأخلاقية عن قيم المجتمع السويّة.
ويتجسد الضياع ذاته عند «دنيا»، بطلة فيلم «إلهيات» للمخرجة الفرنسية من الأصول المغربية هدى بنيامينا، الصبية من الأصول المسلمة التي نراها في بداية الفيلم تُقلد تلك المشاهد الأيقونية لفيلم سائق التاكسي عندما كان يتحدث أمام كاميرات وهمية. هي أيضاً في أزمة ذاتية مثل حال بطل الفيلم الأميركي ذاك وفقدت توازنها، ذلك أنها لا تشعر بالانتماء حتى الى المهاجرين مثلها بسبب سيرة أُمّها الغانية. تقدم المخرجة فيلماً حيوياً عن بطلات مراهقات من أحياء المهمشين، وتضطلع بمهمة صعبة، فهي من جهة تقدم بطلة مكروهة لا تُحتمل لسلوكها المشين، ومن الجهة الأخرى علينا أن نتفهم الظروف التي قادت البطلة الى ما هي عليه اليوم. يشكل الفيلم إضافة مهمة الى فئة أفلام الضواحي الفرنسية والتي نضجت في السنوات الأخيرة كثيراً، ويفتح أُفقها على نماذج نسوية بعدما كان الذكور هم من يحتكرون الاهتمام.

ليلى الغاضبة
تُشبه «ليلى»، الفتاة المراهقة من الأُصول المغربية التي قدمها فيلم «ليلى أم» للمخرجة الهولندية مايكه دي يونغ، بطلة فيلم «إلهيات»، إذ إنهن يحملن الغضب والاغتراب ذاتيهما، وعلى أعتاب العمر نفسه الذي تنطلق فيه الرغبات الجسدية، لكن «ليلى» ستسلك طريقاً مُختلفاً عن ذلك الذي أخذته الفتاة الأخرى بعد أن جذبتها أفكار مجموعة من الشابات والشباب المسلمين الذين أداروا ظهورهم للحياة والمجتمع الهولندي. وسيقودها هذا الطريق الى الشرق الأوسط، بعد أن تتزوج دون رضا أهلها شاباً مسلماً هولندياً، سيأخذها معه الى ما يعتبره «الحرب المقدسة». عندما تصل «ليلى» الى الشرق الأوسط، وحتى قبل أن تبلغ أمكنة المعارك، سيتكشّف لها الثمن الذي عليها أن تدفعه من حرياتها، وستبدو حياتها في «أمستردام» ثمينة وبعيدة المنال.
لا تنتظر المخرجة الهولندية المعروفة في بلدها بجرأتها سنوات عديدة، حتى تقارب قضية التحاق مسلمين من أوروبا في القتال الدائر في الشرق الأوسط، وهي القضية التي ما زالت تتكشف خفاياها وظروفها وضحاياها. وتزاحم المخرجة الإعلام الشعبي وتصوغ وجهة نظر متفهمة في شكل عام وشديدة القسوة في مواضع للظروف المعقدة أحياناً التي تدفع شباب وشابات من قلب أكثر مدن العالم حرية للالتحاق بتنظيمات مُتطرفة تنتمي الى عصور الظلام، بخاصة عندما تصوّر الانزلاق البطيء الحاسم للبطلة الشابة في عالمها الجديد وبعدها عن أهلها ومحطيها الذي ولدت فيه. تبتعد المخرجة عن التبسيط أو التنميط وبالخصوص مع البطلين الشابين وقصة حبهما، والمأزق الذي وقعا فيه، وكيف تصادف بحثهما واكتشافهما لذاتيهما مع صعود الحركات الإسلامية التي تعد بالإجابة عن كل الأسئلة.
ومن هولندا أيضاً عرض، وضمن البرنامج التسجيلي، فيلم «بزنيس كالمعتاد» للمخرج أليكس بيتسرا، والذي يقوم بدوره بنبش شديد القسوة في العلاقة مع والده التونسي، والذي تعرف إلى والدته الهولندية عندما كانت الأخيرة في إجازة في البلد العربي في نهاية عقد السبعينات من القرن الماضي، وتزوجا بعدها. لكن الزواج وإقامة الوالد في هولندا لم يستمرا طويلاً، إذ أبعد بعد سنوات قليلة من هولندا بسبب جريمة اقترفها، لتشكل علاقة المخرج بوالده عقدة حياته، والتي يفتحها للجمهور بصدق وجرأة كبيرين في هذا الفيلم التسجيلي. يضرب المخرج رأسه مراراً في حائط الأب، ويصل الفيلم الى خلاصة قانطة عن العلاقة بين الشرق والغرب، إذ إن الأب الذي لم ير ابنه لعشرين عاماً يطالب هذا الابن اليوم برعايته، لأنه ووفق قوله «وهبه الحياة»، فيما لا يزال الابن ينتظر من الأب أن يقوم بدوره المنتظر منه.

سجن أردني وشقة فلسطينيات
وشهد المهرجان الكندي العرض العالمي الأول للفيلمين: «إن شاء الله استفدت» للأردني الفلسطيني محمود المساد، و «بر بحر» للفلسطينية ميسلون حمود. في الأول، يخطو المخرج خطوة غير متوقعة في مسيرته السينمائية التي هيمنت عليها بوتريهات تسجيلية جمعت بين الذاتي والعامّ وتميزت بثرائها الشكليّ اللافت وصوّرها المخرج ليقدم هنا كوميديا شعبية تتقصد الجمهور العريض. كتب المخرج الفيلم بنفسه، ويبدو – أي الفيلم – كرد فعل على الأزمات الاقتصادية التي أنهكت قوى المواطن العربي. بطل الفيلم شخصية مسحوقة لا يصل حتى الى وصف البطل المضاد، لكنه سيكون المرآة التي سنتعرف فيها إلى شخصيات ثانوية وعلى المحيط من حوله. ينتهي البطل بالسجن بعد أن عجز عن الوفاء بوعوده في العمل، وفي السجن ستجرى معظم أحداث الفيلم.
بعد بداية جيدة ومشاهد ليلية متقنة تذكر بموهبة المخرج كمصور، يتبدل إيقاع الفيلم وشكله عندما يدخل وبطله الرئيسي السجن. يختار الفيلم معالجة مخففة للحياة في السجن تبتعد عنها الحدة والوحشية، ربما لأن مساجين الفيلم من النصابين والمحتالين الصغار. ترتكز كوميديا الفيلم على كشف خفايا الفساد في مؤسسات الدولة، لكنه يتعثر في صياغة بناء درامي محكم لمشاهد الحياة في السجن، التي كان يمكن أن تكون كاشفة لما تجمعه السجون من شخصيات متنوعة والتصادمات التي تحدث تحت سقوفها. يقوم المخرج بإدارة خطوط درامية عدة، منها واحد يلعب هو نفسه فيه شخصية محتال. كان يمكن تبسيط القصة ونقلها بالكامل في السجن والبحث في فضاءاته عن تكوينات شكلية جديدة، هرباً من الاختناق والألوان المبالغ في أسلبتها، والتي طبعت مشاهد الفيلم الداخلية.
تُعرّف المخرجة الفلسطينية ميسلون حمود في باكورتها «بر بحر»، بجيل شاب من فلسطيني 48، وهو الجيل الذي بالكاد نعرف شيئاً عن جيل آبائه ناهيك به شخصياً، هذا وحده يجعل الفيلم إطلالة مهمة على حياة هذا الجيل رغم خيالية القصة. تبدو المخرجة واعية أيضاً بما تقوم، لذلك نراها تجمع شخصيات عديدة لتعكس حياة الفلسطينيين في اسرائيل. تتشارك ثلاث فتيات فلسطينيات من خلفيات اجتماعية مختلفة الحكاية والسكن في شقة في مدينة تل أبيب، وعبر قصصهن الخاصة تحلل المخرجة وتدين العقليات السائدة في مجتمعاتهن. من الشخصيات امراة مثلية، وفتاة من أسرة متدينة محافظة قذفت بها الظروف الى تلك الشقة.
تختار المخرجة مقاربة تقليدية نسوية لقصص بطلاتها، ولا تخرج من ضيق هذه المقاربة. فلا يبدو الفيلم بأي شكل من الأشكال تحديثاً مهماً على كلاسيكيات السينما العربية التي تناولت قضايا المرأة. يشغل الهم الاجتماعي النسوي المخرجة الشابة، ويفلت منها الصياغة والتصور السينمائي الجديدين. وتجعل شخصياتها المنمطة تقفز قفزات غير مبررة. يحاكم الفيلم عبر محن شخصياته الشابة، علل المجتمع جميعها، لكنه يفعل ذلك بذهنيات ولغة سينمائية قديمة، تتوجه الى جيل الآباء في المقام الأول. كما يبدو العمل الروائي منغلقاً على ذاته، بإشاراته التي يوزعها على زمنه وعلى ديكور مشاهده. كما أن هذه الإشارات – والمهمة في تشكيل الصورة العامة للشخصيات والظروف حولها- صعبة كثيراً على الفهم لغير العارف بتاريخ المنطقة. فبعد البداية التي أوحت بأن الشخصيات منسجمة مع وضعها الاجتماعي كعرب في إسرائيل، نرى في شقة الفتيات بوسترات معلقة باللغة العربية عن حق العودة للّاجئين وكتباً باللغة العربية.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى