عبد الكريم جويطي يرسم مسار «المغاربة»

أحمد المديني

بينما يدخل العقد الثالث من انخراطه في سلك الكتابة الروائية، يبدو عبد الكريم جويطي، الذي أصدر روايته الأولى» ليل الشمس» ( 1992) وفيّاً ومنسجماً مع تصور واعٍ ومدرّب، عن الحياة والأفراد والعوالم والمشاعر والمُثل التي ينبغي أن تظهر ممثلة ومعتركة، في سرود تحكيها وتشخّصها ضمن بيئة محددة، قد تختصر الوجود والحيوات والأسئلة كما تجري في قلبه وتدور في فلكه، من منظور متعدد، ذي هوية تراجيدية حاملاً دلالة الخسارة والأفول. وهذا أقوى ما ذهبت إليه روايته «كتيبة الخراب» (2007). وهو لا يكاد يحيد عنها، يتغذى منها وتغذيه، في تلاقح مستمر ليكون للكتابة الروائية معنى وضرورة، لا سرداً يتناوب على المواضيع كيفما اتفق.
في روايته الجديدة «المغاربة» (المركز الثقافي العربي) تأصيل لهذا الخط بكيفية شمولية واستقصائية أكثر نضجاً، وأوغل استغراقاً في مساءلة المصائر وتتبّع المعضلات التي كوّنت – وشغلت – تاريخ شعب، والأيقونات المميزة له عبر حقب مختلفة، مرسومة ومستكنهة بواسطتين أساسيتين: الحفور التاريخية والأنتروبولوجية والميتولوجية. ترسم مجتمعة البنية الذهنية التي تصنع الأطر الاجتماعية والثقافية والسياسية ويحيا داخلها وفي تركيباتها هذا الخلق (الخصوصي – المغاربة). والواسطة الثانية هي المحكيات الكبرى والصغرى الحاملة لعناصر هذه البنية وتتخلّق بسرد ينعته مؤلفه «رواية»، أي يلحقه بجنس محدد، يُشغِّل داخلها كتابات مختلفة هي الأنواع الصغرى.
كل محاولة لتلخيص هذه الرواية مجازفة، لأنها تتشظّىّ في مناحي شتى، تشظياً مقصوداً لا تبعثراً، وهذا أحد أنساق سردها. وكذلك نظراً لتعدد سُرادها ، شكلاً على الأقل، وإلا هم في نهاية المطاف قناع لتلفظ المؤلف، خطابهم أكبر منهم، ومساحات سردهم أوسع من مرامي حكيهم. هم سارد عليم يتوزع على دورين وشخصيتين فاعلتين في العمل من بدايته إلى النهاية يتحركان في مجال واحد. مدينة بني ملال، ويتمددان انطلاقاً منها أفقياً فيتسع المجال وتدخل في نطاقه شخصيات وأحداث تبرز تجليات شخصية المغاربة وتتبأّر هويتهم. أو يتجمع عمودياً متمركزاً على الشخصية، فاعلة وساردة، تعرض حالها إذ تعيش أهوالها متقلبة بين غورها الذاتي، أو متجاورة ومتفاعلة مع جوارها ومحيطها القريب.
الشخصية الأولى اليافع والفتى، من سيشِبّ وهو يعاني من آلام في عينيه تتهدد بصره إلى أن يفقده تماماً، وهو يسرد جوانب من طفولته في كنَف جده، ومعاناة هذا الجد الذي سيفقد بستانه بتجاوزات السلطة ومعه يشعر بانهيار عالمه وخراب روحه، فيبدأ تنقلاته بين البحث عن بلسم للحفيد ما سيُشرع باب النص واسعاً لتدخل الطقوس والمراهم الخرافية والتهيؤات الفولكلورية، مبرزة ثقافة شعب، وبين الانغماس في رحلة جوانية تتوهّج فيها أدبيات كرامة الأولياء والصالحين باستدعاء النصوص والرموز البانية لها ولحفور ذاتٍ مكلومة. جدٌّ سيموت، ليخلفه مباشرة في مقام التأسّي وتأكيد المصير التراجيدي حفيده الثاني، العائد إلى أهله ومدينته بساق مبتورة من حرب الصحراء (إحالة على نزاع الصحراء البادئ منذ 1975)، ما يعرضه لآلام قصوى. وها هو بعد العودة أسير معاناة مريرة نتيجة العطب وانعكاساته النفسية، وتمزقه بين حاضر أليم وماضٍ أشدّ إيلاماً فقد فيه زملاءه الجنود، (البوكمازي بخاصة الذي عوّض وحدة الصحراء وقحطها بزرع حديقة مصغرة، ثم مات)، لينصرف أخيراً إلى القراءة وقطف شذرات الكتب وإلى معاقرة الخمر ملاذاً من الخسارة.

الشخصية الثالثة
بين مجرَيَيْ محكي هاتين الشخصيتين المركزيتين يجري نهر الشخصية الثالثة الدافق والمثير. هنا حيث يراهن جويطي على تعبئة عنوان «المغاربة» بالمعنى والدلالات القصوى، مستثمراً موروث حكي تاريخي وسياسي وعقيدي وسلالي، هو سيرة الاستبداد والهيمنة والتمرد وفروض الولاء، وتمظهرات سلطة الاستعباد والجور بأبشع الصور والأدوات؛ سيرةٌ ممثلة في سرد قصة شخصية تنتمي إلى البيئة مدار الرواية، منطلقاً وخاتمة، واقعية حد الفظاظة. وبمقدار ما تكتسي حلل تخييل زاهية، وبتعبيرية شعرية جامحة، تمثل تاريخ الصولة، وخصوصاً منحنيات الصعود والسقوط، الشروق الساطع والأفول المُذِل، شخصية القايد، فالباشا بوزكري، كما عاش وحكم مدينة بني ملال ومنطقتها، وتتابع أبناؤه وتركته ليصبحوا سادتها ورموزها، متسلسلين وعابرين في مراحل حكم الإقطاع وما قبل الاستعمار وصولاً إلى عهد الاستقلال.
هيأت حكاية بوزكري التي تشغل حيزاً كبيراً من المتن إمكان نسج نص مواز بإعادة رسم ما عرفه المغرب في أزمنة ثلاثة، وبثلاث شخصيات من العائلة نفسها: الحاج بوزكري الأب، والحاج عبد السلام، وطه بوزكري، بما يجسد كل واحد من جبروت واستهتار وهلوسة حكم، ممثلين لأيقونة التسلط والفساد، كما طبعت تاريخ المغرب القديم. ويسهب المؤلف في عرض عشرات الأمثلة لأفعالهم وأساليب تنكيلهم بالعباد وارتهانهم للمستعمر الأجنبي، ويرخي العنان ليشمل التاريخ الحديث والمعاصر للمغرب والمغاربة.
يرسم له لائحة سوداء وصك اتهام حاد اللهجة، بمثابة هجائية مستقلة مندسة في جلد النص، تبتعد عن خط السرد الذي يفترض أن الشخصيتين المذكورتين مكلفان به: الأخ الذي صار أعمى، وأخوه العسكري المعطوب. فيا لهذا العمى الجارح لمن بلغ سن الشباب، وتحول أُلهية في دار الباشا هو وأقرانه العُمي، عليه أن يقود حكاية الانهيار والتفسخ التي تصل بمجد سليل القايد بوزكري إلى حتفه. وفي الوقت حكاية عشق تُعرضه للخديعة بعدها ليتضاعف عذابه، هو الأعمى، هويةً وصفةً. مرة واحدة يأتي الكاتب على ذكر اسمه (محمد الغافقي)، من يعاشر العميان والمعطوبين، والجماجم التي عثر عليها في المدينة، وصور الوهم والخديعة والبحث عن شفاء مستحيل في مزارات الأولياء والمجاذيب تمثيلاً لطقوس وثنية ومعتقدات شائعة كان السوسيولوجي المغربي بول باسكون قد خصص لها مونوغرافيات دقيقة وفرزها كإحدى الأيقونات المغربية الخالصة.
تنتهي» المغاربة» ويبقى السؤال عالقاً على الشفاه: هل هذه الرواية تصلح بطاقة تعريف لهم، أم هي وجه من وجوههم، أم تحرضنا – انتسبنا إليهم أولم ننتسب – لنتعرف أكثر على هذه المجموعة البشرية التي جعلت جويطي يدبج 400 صفحة وهو يعجن الحقيقة بالخيال، والتاريخ بالأهوال، والزمني بالذاتي، والواقعي الصرف بالصوفي والغيبي، والمخيالي في الثقافة الشعبية برصيد الثقافة العالمة؟

سؤال الشكل
أسئلة كثيرة يثيرها هذا العمل الجريء وأخطرها في نظري، ما يتصل بالشكل، أي بكيفية استحضار وتشغيل آليات ومعمار الجنس الأدبي المصبوب فيه، هو ما نشير إليه بعجالة في هذه القراءة، بملاحظات عدة، أولها أن هذه الرواية تتوسل التوثيق التاريخي والذاكرة الشعبية.
ثانياً، يقلب جويطي بروتوكول قراءة الرواية العصرية. فالفصول غير مفروزة، إنما هي فقرات كبرى يشير الكاتب إلى عناوينها بعبارة «يمكنك أن تسمي هذا الفصل»، يفتتحه بحكاية جديدة في سياق وصف أحوال مغاربته، بكسر أي تعاقب كرونولوجي، وبجلب نصوص وشخصيات موازية.
قلنا إن» المغاربة» هي» كشكول» نصوص، حيناً تتآلف، حيناً تتنافر، سرداً ونثراً تُمسي إلى الشعر أقرب، وطوراً تتعالم، والشذرات فيها نص وحدها، تدخل وتخرج إلى محفل الرواية الكبير بلا حسيب ولا رقيب. ويعي الكاتب ورطته هنا فيبرر بقول صُراح: «بالكتابة الشذرية أحفظ لنفسي الحق في أن أكون متناقضاً، وأن أحطم الأنساق التي نسجن أنفسنا بداخلها». فهل يكفي هذا التصريح لإنقاذ العمل من التشتت وتنافر الأجزاء، وهل مخاطبة القارئ بمثل هذه الأقوال يمكن أن تمثل «براديغم» جديداً لميثاق قراءة الرواية؟
يمكن متابع الرواية العربية في المغرب أن يلاحظ كيف أن ثمة نزوعاً لدى بعض كتابها الحاليين، المجتهدين، إلى شعرنة السرد بإفراط، وتضعيفه بالمناصّات، وخصوصا تقصُّدُهم تفكيك نظام الجنس (الأدبي) بوازع التجريب والتجديد، ومثله، متناسين او غير منتبهين أن التفكيك ذاته يعوزه التركيب، أي النظام، وإلا عادت الكتابة إلى مرحلتها الفطرية، ما قبل الأدبية، وعليها أن تستأنف مرة أخرى رحلة شاقة لتصل إلى الأدب – الرواية كشكل مركب. أحسب أن عبد الكريم جويطي يعي هذا جيداً، وكان في حاجة إلى «المغاربة» ليصفي حساباً مع تاريخ جريح، منه ينتقل إلى بناء النص الروائي المنظم والمشتهى. فالمغاربة يتجددون.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى