التشكيلي الجزائري مصطفى غدجاتي يبني منجزا فنيا معاصرا

محمد البندوري

التجربة الفنية للفنان التشكيلي الجزائري مصطفى غدجاتي تنبني على أشكال تعبيرية مستمدة من الواقع، وهي في منجزه التشكيلي تمتح مقوماتها من الحضارة الجزائرية خصوصا والمغاربية عموما.
وإذا كان تفاعله الباطني ينتج مادة فنية رامزة إلى الموروث الحضاري، حيث تتبدى أعماله رصدا دقيقا يعبر عن محطات حضارية؛ فإنه في الوقت نفسه ينتج مادة فنية معاصرة ينجز من خلالها أشكالا تعبيرية، يصيغها في أشكال فنية معاصرة، باستخدام دقيق للألوان ومختلف الرموز والإشارات والعلامات، لينسج منها المادة التشكيلية التعبيرية الصرفة، ثم يشكل منها مواد مباشرة، فيعمد إلى روابط علائقية يربط بها مختلف العناصر المكونة للفضاء، لتتبدى بين كتل من الأشكال والرموز والعلامات والألوان، يعمد من خلالها إلى ضبط كل العمليات التي تولف بين مختلف العناصر المكونة لأعماله، في خامات كبيرة الحجم وبمساحات مكثفة، كون الفنان مصطفى غدجاتي يعتمد أسلوبا معاصرا يتغيا المساحات الكبيرة ويكثف الفضاء، وبذلك فهو يفصح عن التراكمات الرمزية، والأشكال والدلالات العميقة، والعلامات الأيقونية، التي تنبثق من هذا الأسلوب الثري والمحمل بمجموعة من العوالم التشكيلية الجديدة، وبذلك يؤصل لفلسفة قيمية تستجيب لضرورات العمل الإبداعي ليتفاعل مع القارئ من منظور ثقافي صرف.
ويعتمد الفنان التشكيلي مصطفى غدجاتي على قاعدة تشكيلية يميزها الفن الشخوصي المبهم، والتعبيري المستمد من الواقع. ولتحقيق ذلك فهو يعتمد ملء الفضاء إلى حد ما، وتوظيف الرموز والعلامات المختلفة التي تحرك الفضاء لتشكل نسيجا فنيا رائقا حين تتداخل الأشياء المنفصلة، سواء عبر اللون أو العلامات الرمزية، فتحقق الانسجام في ما بينها مما يفضي إلى تلميح غامض، وبذلك تظل المقاربة مغمورة بكل سياقات المادة التشكيلية المشكلة للفضاء، تتسم بوجود وشائج قائمة بين التشكيل والموضوع، ثم إن تلك الكثافة تخفي في عمقها مضامين ودلالات قوية، مرتبطة بالاستدراجات اللونية التي تعضدها الخطابات المخفية وراء حجب الكثافة، لتظل رهينة التأويلات المختلفة والقراءات المتعددة الناتجة عن تعدد الدلالات. وهذا يدخل ضمن النسيج التشكيلي للفنان الرائق مصطفى غدجاتي. لأن البناء التشكيلي الشخوصي عموما يعتمد في جوهره على المادة المتصلة بالواقع، فنجد الفنان مصطفى يثبته في الفضاء وفق خاصيات تشكيلية معينة، ويعتمده بشكل مدروس يراعي المقاسات وقيم السطح، وبإضافات جمالية تشكيلية ورمزية، وبتعبير أيقوني يفصح عن خلجات الفنان الأنيق مصطفى غدجاتي، إنه سحره التشكيلي المتعدد الرؤى والدلالات، والمليء بالعلامات اللونية، والأشكال المتنوعة والطرق التعبيرية المعاصرة؛ وهي كلها غاية في الجمال، تتوقف على مناحي متعددة من القراءات.
وكل هذا يسمح بخروج المادة التشكيلية إلى حيز الوجود الحسي والبصري بكثير من المهارة والتقنيات العالية، وهو ما يتوفر عليه الفنان المقتدر مصطفى غدجاتي وما تسمح به تجربته الرائدة في الحركة التشكيلية المعاصرة. إنه يرصد أسلوبا دقيقا لصنع دور فعال لعمله الضارب في عمق الابتكار التشكيلي. ففي هذا الدور يكمن سر المعاصرة وحداثة الأسلوب. وهو ما يتيح للقارئ التأمل بعمق في أعماله لاكتشاف عوالم فنية جديدة تساعد على فهم عالمه الإبداعي. علما بأنه يتواصل مع المادة الفنية بوجدانية وتفاعل كبيرين، ليصل إلى نتيجة ناضجة تتعلق بقيمة الفضاء وتوجه مسار التعبير على مستوى التشكيل المعاصر. فيظهر بوضوح التكامل في التأليف بين مختلف العناصر والكتل والأشكال المليئة بالإيحاءات والدلالات، وبين الفراغات النادرة والكثافة، فيتحقق ذلك بأشكال تباينية إلى حد ما يقدم من خلالها عملا متكاملا ومنسجما ورائقا. فيظهر أسلوب الفنان مصطفى غدجاتي جليا من خلال بسط طريقة التحوير في شكله المتكامل برؤية شخصية للفنان وبعمق نظر للقارئ، بعدما أخذ في بصره البعد الجمالي، بحيث إن كل جديد في رؤية الفنان يتخذ مسلكا قويما ونهجا سليما وطريقا جديدا في التعبير تنبني عليه الرؤى التشكيلية المستقبلية، وهو ما يعني أن الفنان التشكيلي مصطفى غدجاتي يثقف أعماله ويلفها بطابع المعرفة، ويستجيب لضرورة بث شاعرية العمل وموسيقاه لكي يتناغم القارئ والناقد مع كل الأشكال الغامضة التي يلفها السر. ويبسط أنواعا من الاختلاف والانسجام بين مفردات المادة التشكيلية التي تولد عددا من الدلالات، وبين البؤر اللونية وصناعة الشكل التعبيري التي تؤطر المجال الجمالي. فالإيقاعات اللونية والأشكال المتنوعة كلها تشكل ثقلا وكتلا وركاما أيقونيا دالا على معاني ترمي الى تأويلات معينة، وتشكل مجالا جماليا يكسب العمل الفني حيوية ورشاقة، تروم التعبير بعمق عما يخالج ذات الفنان، بل إن التفاعل التشكيلي مع كل العناصر المكونة للأعمال تجهز على عالم المسموع إلى الصورة التشكيلية البصرية بأسلوب مغاير وبقيمة تشكيلية معاصرة وفريدة. إنه أسلوب صريح في فلسفة الفنان المقتدر مصطفى غدجاتي، الذي يتفاعل مع الملمس التشكيلي بمعرفة وعلم وإيجابية فنية، ليساهم بالتعبير في الظهور بطرق فنية جديدة وأسلوب تشكيلي معاصر.

 

(القدس العربي)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى