الحاجة إلى نظرية سياسية عربية بديلة في عالم ما بعد التحولات والسرديات المحلية

محمد تركي الربيعو

ركز العديد من كتابات العلوم السياسية التي تناولت المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين، على قدرة النظام الاستبدادي الراسخ في الحفاظ على سيطرته داخل المجال العام، وعلى العجز النسبي للمجتمع المدني.
كما أن الكثير من علماء السياسة أشاروا (رغم إدراكهم لبعض التحولات على المستوى الاجتماعي والاقتصادي) إلى أن أصحاب الحكم المطلق في الدول العربية أثبتوا في جميع الحالات تقريباً أنهم قادرون أكثر من نظرائهم في سائر أنحاء العالم على مقاومة هذه الضغوط. وقد أشارت هذه الكتابات إلى عوامل متنوعة لتفسير قدرة النظام الاستبدادي على استرجاع نفوذه مثل، سهولة الحصول على النفط، وقوات أمن متطورة فوق اللزوم، وخطط استراتيجية محكمة لتفريق المعارضة واستيعابها. وبذلك بدا أن هذه الدول العربية أخذت تثبت مقدرتها، على التكيف مع التحديات والمشكلات والإبقاء على موقعها المهيمن في كل ما يتعلق بالشؤون الداخلية وسياساتها الخارجية. مع ذلك، فإن حقل العلوم السياسية الشرق أوسطية سرعان ما شهد مع بدايات الاحتجاجات الشعبية في البلدان العربية وسقوط نظامي حسني مبارك وبن علي وضعاً شبيهاً بحالة الاضطراب التي شهدها حقل العلوم السياسية السوفييتية في عام 1991، عندما تنبأ عدد قليل من العاملين في هذا الحقل بتوقيت التغير وطبيعته. غير أن الأحداث التي شهدتها بعض البلدان العربية لاحقاً، خاصة سوريا واليمن وليبيا، وقدرة بعض الأنظمة بداخلها تجنب السقوط، لعدد من الأسباب المحلية والإقليمية، دفعت عددا من الباحثين الغربيين والعرب لإعادة الاهتمام والنظر من جديد لنظريات التحول الديمقراطية، خاصة تلك النظريات التي ركزت على التحولات التي شهدتها أمريكا اللاتينية وأوروبا الشرقية في العقدين الثامن والتاسع من القرن العشرين، التي شهدت عقد صفقات بين أنظمة أوتوقراطية وبين المعارضة.
وبالعودة إلى نظرية التحولات، نجد أن هذا النموذج النظري يخلو من أي «شروط مسبقة» على الصعد الثقافية والاقتصادية أو المؤسساتية لتحقيق الديمقراطية. وقد صيغ بالأساس من قبل بعض علماء السياسة لأنهم أرادوا أن يساعدوا المعارضات في العالم على خلق خطط إستراتيجية للتفاوض مع الأنظمة العسكرية التي كانت عرضة لأزمات خطيرة متعلقة بشرعيتها. وكمثال على هذا النموذج يمكن أن نشير هنا إلى كتاب «المراحل الانتقالية من النظام التسلطي» لعالمي السياسة الأرجنتيني غوليمرو أودونيل والإيطالي فيليب شيمتر الصادر سنة 1986 عن جامعة جون هوبكنز، إذ تقوم نظرية التحولات لديهم على عدد من الفرضيات منها:
– تبنى التحولات بصفتها نتيجة منطقية لجولات عنيفة متكررة وشاملة من الصراعات، تتسبب في نهاية الأمر في انشقاقات داخل الأنظمة، ولمعالجتها تُسجَل مساع متتالية من قبل حمائم النظام لمد اليد إلى المعتدلين في صفوف المعارضة.
ـ في إحدى المراحل المهمة من عمليات تحول النظام، تستفيد النخبة الحاكمة بفعل ما تمتلك من قوة مؤسسية واقتصادية قاهرة، فتكون لها اليد العليا في عملية المقايضة، ما يسهل على شاغلي الحكم ممارسة الضغط على زعماء المعارضة الذين يوافقون مكرهين على اتفاق يحمي مصالح متبوئي المناصب العليا في الدولة. مع ذلك، فإن ما يمد المعارضة بالقوة والقدرة على تثبيط جهود النظام الرامية إلى تقزيم حجم العملية الانتقالية بنحو جماعي هو «إحياء» أطياف المجتمع المدني. بهذا يتطلب التحرك باتجاه الدمقرطة الحقيقة الدائمة تعبئة شعبية منظمة بشكل مستقل عن الدولة، على الرغم من أن عملية تغيير النظام تبدأ عادة بتحرر سياسي بتوجيه من النظام.
ـ لا غنى للمعتدلين في صفوف النظام عن المتشددين فيه ما دام التهديد الذي تشكله هذه الفئة الأخيرة، يمنح حمائم النظام القوة الدافعة إلى حث معتدلي المعارضة على التفاوض. وعلى نحو مشابه يمكن للجناح المعتدل في المعارضة استحضار التهديد الذي يمثله الجناح المتطرف في المعارضة لتقوية مركزه في المفاوضات مع حمائم النظام، بيد أنه كي تمضي العملية الانتقالية قدماً، يتعين على جناحي المعارضة، المعتدل والمتطرف، تأمين حد أدنى من التوافق حول استراتيجية وهدف مشتركين عندما تتكشف العملية الانتقالية شيئاً فشيئاً.

خلفية نظريات التحول

في هذا السياق يرى دانيال برومبرغ استاذ العلوم السياسية في جامعة جورج تاون في دراسته العميقة «نظريات التحول» التي نشرت في كتاب «شرح أسباب الانتفاضات العربية» تحرير مارك لينش أستاذ العلوم السياسية في جامعة جورج واشنطن الذي صدر عن مطابع جامعة كولومبيا عام 2014، وترجم قبل فترة قصيرة للعربية عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، أنه مع مرحلة السبعينيات من القرن العشرين انتشرت في حقل العلوم السياسة نظرية التحديث، التي عرضت دينامية تصبح من خلالها الطبقة الوسطى الناهضة طليعة إرساء الديمقراطية العالمية. والأساسي في هذه النظرية هو افتراض أن التحديث سوف ينتج عملية «علمنة ثقافية» من شأنها إتاحة المجال للهويات الخصوصية الإثنية والدينية واللغوية كلها للتعبير عن نفسها في دائرة خاصة بعيداً عن المقتضيات العقلانية للسياسات الديمقراطية واقتصادات السوق.
لم تدم طويلاً هذه الأفكار التي كانت آخذة في الانتشار، فقد سجلت أكثر من عملية انفتاح سياسي، مثل سقوط جدار برلين ودمقرطة غالبية دول أوروبا الشرقية، ما اضطر أصحاب حقل السياسة المقارنة – بحسب بلومبرغ – إلى وضع الجدل الدائر حول «البنية الثقافية» وراءهم. وبحلول أوائل العقد التاسع من القرن العشرين، بدا أنه تم تجاوز هذه النقطة الجدلية من خلال مثال جديد أثبت قدرة القادة السياسيين على الخروج من دائرة النزاعات السياسية والاجتماعية التي بدت قبل ذلك وكأنها تركيبة محتملة الحصول، والوسيلة التي استخدموها تمثلت في التفاوض. ووفقاً لبلومبرغ، يمكن إرجاع سبب هذا التحول الجذري في المفاهيم إلى بعض الأسباب التي جعلت الأنظمة الاستبدادية البيروقراطية في أمريكا اللاتينية، مثل النظام الحاكم في البرازيل، تتبنى سياسة الانفتاح، حيث قامت هذه الأنظمة بهذا التغيير الجذري في سياستها سعياً لاستعادة قدر من الشرعية. وقد بدا حينها أنه مشروع مستحيل بما أن عمليات الانفتاح السياسي من شأنها أن تشجع على قيام تعبئة شعبية ضد الدولة، لكن بعض علماء السياسية سرعان ما جادل ضد هذا الرأي بالقول إنه أمكن التخفيف من حدة هذه التوترات الاجتماعية بعقد «تحالفات» سياسية ضمنت صفوف المعارضة بموجبها لأنظمة الحكم حقوقها الملكية مقابل حصولها على حقوق سياسية رسمية. كما أن واضعي نموذج التحولات جعلوا متغيرات الحداثة الكلاسيكية محور تحليلهم بصورة ضمنية، بالقول أنه عندما تحين الفرصة «لإحياء المجتمع المدني» يقدم إلى زعماء المعارضة الدعامة للدفع باتجاه زيادة نسبة المشاركة في العملية الديمقراطية. وكانت النتيجة نشوء وصفة سحرية تمثلت في نظرية التحول.

نظرية ما بعد التحولات عجز على مستوى فهم المحلي

مع ذلك يرى بلومبرغ أن نظرية التحولات ليست معدة للتعامل مع القوى المحلية أو الملزمة أو الداخلية المنشأ التي تكون الأولويات السياسية. ومن هنا نجد بعض علماء السياسة أمثال غسان سلامة أو جون ووتربري في مقالته «ديمقراطية من دون ديمقراطيين»، يستبقان على نحو فعال الدراسة التحليلية الانتقالية، بالتجرؤ على الايحاء بأن جميع العلوم المنطقية السياسية لا تتمتع بصفة العالمية، وأنها يمكن أن تكون متجذرة في بنى سياسية محلية أو قومية أو إقليمية تنتج تصورات متمايزة حول ما يصح قانونياً وما لا يصح.
وبالنسبة للدول في منطقة الشرق الأوسط، يعتقد بلومبرغ أن التغير في الاتجاه بالتركيز على الصبغة التاريخية – المؤسساتية جوهري من أجل فهم التحديات المتعلقة بالذات بعمليتي صنع الاتفاقات وانتقال الحكم في المنطقة. ولتوضيح هذا الجانب، يقوم بلومبرغ بالتمييز بين مقاربتين حيال النظر لأشكال الانتقال. الأولى يدعوها بالمقاربة «الشكلية» التي تلقي الضوء على عوامل مؤسسية محورية في التحليلات السياسية السائدة، مثل التباين في تأثير الأجهزة الانتخابية في النظام، و»استراتيجيات البقاء» التي تعتمدها أنظمة الحكم لصرف الأنظار عن الانشقاقات داخل النظام، والاستصراتيجيات التي يعتمدها زعماء المعارضة لإشراك المحاورين المحتملين في النظام. مع ذلك فإن معظم الكتابات – بحسب بلومبرغ – التي تناولت موضوع ما بعد التحولات من خلال المقاربة الشكلية لم تساعد إلا قليلاً على شرح الأسباب أو الدوافع الكامنة خلف الخيارات الخصوصية والاستراتيجيات المتبناة من قبل نخب النظام والمعارضة.
أما المقاربة الثانية فهي المقاربة التي ينعتها بلومبرغ بـ«التشكيلية» التي تلفت النظر إلى الطرائق التي تتعزز من خلالها، مع مرور الزمن، مجموعة متنوعة من المتغيرات المؤسسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، الأيديولوجية الشكلية وغير الشكلية الموجودة في مناطق معينة. وبالتالي تنشأ أنواع متميزة من الأنظمة السياسية المحلية أو الإقليمية لا يمكن اختزالها في أي عناصر مكونة محددة. ووفقاً لذلك يتم التركيز في هذه الحالة على القوى الداخلية والمنطق المحلي ومحاذرة النماذج العالمية، كما يستبدل المسار الرئيسي القائم على وضع نظريات كبيرة بعدد وفير من السرديات التابعة لمسارات معينة. واعتماداً على الميول النظرية الفردية.
وكنموذج تطبيقي عن هذه الرؤية المحلية بدل الصبغة العالمية لنظريات التحولات، يشير بلومبرغ إلى نموذج النظام السياسي في إيران، ذلك أن محاولة مطابقة الجمهورية الإسلامية مع النموذج العالمي القائم على تماسك النخبة أو تجزئتها وتقسيمها أوتوقراطيات انتخابية تبقى قاصرة، كونها تشكل بالأساس جزءاً واحداً من شبكة متكاملة أوسع من «مناطق نفوذ محجوزة»، حيث يقوم من خلالها لاعبون فاعلون مؤسسيون وأساسيون على رأسهم القائد الأعلى، ويتبعه الحرس الثوري ومجلس الحرس الوطني بالتفاوض حول حدود التنازع السياسي ورسمها أو تقييدها.
علاوة على ذلك لم تحدث هذه الدينامية المعقدة جراء صراع منطقي على المصالح الاقتصادية فحسب، بل هي تتمحور حول أيديولوجيات دولة متجذرة في المبدأ الرئيس القائل بأن الهدف من وجود الجمهورية الإسلامية هو الدفاع عن الأسس الثقافية والدينية لإيران الشيعية وهويتها كما هي محددة من قبل طليعة رجال الدين وحلفائهم من الناس العاديين ونشرها. بالتالي فإن رد سبب بقاء الأوتوقراطية إلى نقاط ضعف السياسة الفئوية أو إلى عجز زعماء معتدلين مثل خاتمي عن اتخاذ خيارات من شأنها أن تستثمر نقاط الضعف هذه للدفع بأجندات إصلاحية قدماً، هو أمر يفتقد المنطق المحلي الأكثر تعقيداً لنظام إيران السياسي. ففي هذا النظام لا تنفع دعوات الإصلاحيين إلى إجراء عملية تفاوضية ضمن القوانين والمؤسسات القائمة، وإن كثرت هذه الدعوات.
وبناء على المثال السابق وأمثلة أخرى، يخلص لومبرغ إلى أنه في جميع الحالات التي تشهد تغيير النظام، يتعين علينا أن لا نلتفت فحسب إلى المنطق العالمي أو الخارجي لفهم عالم ما بعد التحولات، بل من المفترض علينا دراسة المنطق المحلي أو الداخلي المحكوم بإطار وطني أو إقليمي معين. وهو نتاج شبكة من القوى المؤسسية والثقافية والأيديولوجية والاجتماعية والسياسية التي نشأت مع مرور الزمن لخلق نظام مميز. وليس اكتمال الدراسات التحليلية الفاعلة التي تتناول تحولات أنظمة الحكم ممكناً من دون الأخذ بالاعتبار المنطقين «الاثنين» (العالمي والمحلي) وطريقة تفاعلهما.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى