الفيلم اليمني «عشر سنوات ومطلقة»: الوجود غير المحتمل

عبدالله الساورة

دوي المدافع التي لا تهدأ وسيول الدمع والدم.. وسط كل هذه الأشلاء المبعثرة في اليمن يخرج للوجود فيلم جميل جدا.. أقول منذ البداية إنه فيلم جميل «عشر سنوات ومطلقة» / 2014/ 96 دقيقة للمخرجة خديجة السالمي.
حكاية طفلة لم تبلغ عشر سنوات تقف أمام القاضي تخاطبه وتطلب منه أن ينظر في عينيها مباشرة لتقول له «أريد الطلاق». هذه الجملة الصغيرة والعميقة تصنع الحدث… حدث الحكاية عن طفلة صغيرة لا دخل لها في الاختيار أو الزواج، هي فقط بضاعة وفرح وفرج للآخرين. ما عدا ذلك لا دخل لها بباقي التفاصيل، العائلة تدبر وتأخذ المهر والطفلة تغرق في أحزانها ودواخلها التي تكاد تنفجر من الغيظ. وعيناها تطلبان رحمة المولى.. وعليها أن تتعود على هذا الوجود غير المحتمل…أن تكون زوجة لبعل يكبرها بعشرين عاما.
يطرح الفيلم قضية المرأة في العالم العربي وكيف تساق في ظل موروثات شعبية مغلفة بالتدين الأعمى إلى أزمنة العبودية.. حيث يتساوى القهر النفسي.. وعدم القدرة على البوح ثم يأتي الانفجار مدويا.
فيلم قاس.. عن يوميات طفلة، بل عن صغيرات يقحمن في عالم الكبار لتدفئة الأسرة.. يجعل من الصغيرات موردا اقتصاديا لعائلاتهن.. المخرجة اليمنية خديجة السالمي في أول فيلم روائي مطول لها «عشر سنوات ومطلقة» بعد تجارب متعددة وتدريبات مكثفة في الفيلم الوثائقي والاحتكاك المباشر مع قضايا المجتمع تدخل غمار الفيلم الروائي التخيلي المطول، حيث تعيش المخرجة وضعية الطفلة «نجوم» التي أدت دورها ريهام محمد ورنا محمد والقرارات نفسها التي اتخذتها للخروج من رحم المعاناة.
فاز الفيلم بجائزة الجمهور في مهرجان حقوق الإنسان في سان سباستيان في إسبانيا.. كما فازت المخرجة بجائزة « أنا امرأة» على المستوى المهني والوظيفي.
تبدأ الدقائق الأولى للفيلم حيث الحوارات مقلة مع إيقاع كبير يقدم الموضوعة المركزية للفيلم بنوع من المفاجأة غير السعيدة… تقديم الطفلة هاجر للطلاق… من هنا يأخذ الفيلم منحى آخر تبيان الأسباب التي أدت بالطفلة إلى اتخاذ هذا القرار في ظل مجتمع محافظ وعقلية ترى في الطلاق بغضا وفضائح بأكثر من مستوى بعد عشر سنوات على الرضوخ. من دون أن يتستر الفيلم يستحضر الفيلم طفولة هاجر في ظل مجتمع ذكوري تظل فيه المرأة خاضعة في حضن الرجال. يقف الفيلم وهو يصور وجوه وعيون النساء والطفلات أمام الأبواب وهن يقفن أمام عتباتها.. متكئات على الحيطان كسند يقوي من انتظاراتهن يوم الانعتاق ..في قوالب أبدعت المخرجة فيها. وفي الوقت نفسه تحكي عن زمن يمني حيث الحياة لها شكل رتيب للمرأة وحيوية تسري في شرايين الرجل. وظفت المخرجة تقنيات المونتاج ليخلق هذا التوازي بين هذا القرار الصعب في طلب الطلاق بنوع من المجاهرة والعلنية في وجه القاضي وبين مآلات الأسرة التي تئن تحت الفقر والعوز وعوالم طفولية للطفلة هاجر التي تبحث عن اللعب والدمى وتقدم قربانا لرجل يرى شهوته الكبرى في افتضاض بكارة طفلة تئن من هول الحال. يبرز التصوير مشاهد ومناظر مختلفة للقضية المطروحة من وجهات مختلفة بتكثيف في الرؤى وبصور من مختلف الزوايا وبلقطات مقربة ابتغت المخرجة أن تقربنا من صلب القضية التي تطرحها موضوعا للنقاش. وكذلك تسمح هذه المشاهد بالتعرف على المناظر الطبيعية لليمن بحقولها وجبالها وأحيائها الجميلة ومساجدها. نكاد نقترب من نهاية الفيلم ليتكشف الكثير من أسرار الشخصيات في طليعتها الطفلة هاجر التي لم تعد قادرة على الاستمرار في لعبة الإرضاء نفسها.. والزوج المتطلب والشهواني الذي يطالب بتحقيق مزيد من الرغبات… وأسرة الطفلة التي تترنح تحت مواسم الفقر والإرضاء.
تظهر العباءات التقليدية التي تلبسها النساء مظهرا من مظاهر الفيلم والحياة التي تعيشها المرأة حيث العيون كمقدمات للجسد تريد التحرر من ثقل الماضي البعيد المغلف بالتدين والتقاليد والعادات.
بالنسبة لأداء الممثلين… روعة الطفلة هاجر التي أدت دورها الطفلة رنا محمد وخلقت نوعا من التعاطف التلقائي معها ومع قضيتها.. ثم دور ريهام محمد التي عاشت عشر سنوات من القهر لم تستطع أن تكمل باقي الدور… بعدما فاضت بالأحزان والأوجاع والمتطلبات.
لا تفاجئنا نهاية الفيلم.. بما أن الفيلم قدم النهاية في بداية الفيلم على شكل رجاء علني وبدون تستر وبقناعة تامة..عن طريق عملية الاسترجاع… ركز فيها الفيلم على تأثير هذا القرار في حيوات الكثير من شخصيات الفيلم.
حصد الفيلم العديد من الجوائز، جائزة في مهرجان دبي… وجائزتين في مهرجان سان سباستيان في إسبانيا… ولكن عمق فكرة الفيلم أكثر من الجوائز…البحــــث عن التحرر من الكوابيس والتقاليد واستغلال الدين التي تقتل الإنسان فينا… ما أحوجنا في الوطن العربي لهذه العينات من سينما التحرر. ستة وتسعون دقيقة هي زمن الفيلم.. قابلة بشغف.. للفرجة السينمائية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى