ليوناردو بادورا.. مواطن هافانا الكوني

أنطوان أبو زيد

تعتبر رحلات ليوناردو بادورا كناية عن محطّات رسوّ متتالية. وإذا ما غادر الكاتب الكوبي هافانا، مسقط رأسه، فمن أجل أن يحاضر يومًا في جامعة «فلورنسا» أو لينال جائزة في «بيروجيا»، (إيطاليا)، أو ليشارك في لقاء أدبي (في «نانسي» – فرنسا، الذي يعدّه الصالون الأدبي وكان هذه السنة حول كوبا). وعلاوة على ذلك، فإنّ للكاتب أن يمرّ بباريس، في إحدى محطّاته، من أجل أن يتحدّث عن كتابه الأخير «ما كان يرغب في حدوثه»، وهو كناية عن ثلاثة عشر نصًّا تمتدّ على عشرين سنة.
إنّ الناظر في أعمال الكاتب الكوبي بادورا الغزيرة – والمتأتية من كونه صحافيا بدوام جزئي، وصيّاد حكايات من خلال الأغاني الشعبية الكوبية، وكاتب سيناريو الأفلام لرواياته البوليسية – يجد فيه من الطاقة والحيوية اللتين نستشعرهما في هافانا نفسها. فمن هذه الشوارع المشبعة رطوبة والتي تدبق حرارتها الأبدان، ومن ضوضاء سياراتها، وتشنّجات النساء فيها وصراخ الرجال، يستلهم بادورا قصصه ورواياته.
وعلى الرغم من هويته المزدوجة الإسبانية ـ الكوبية، فإنّ للمؤلّف شعورًا بالانتماء الى بلده الأصلي كوبا، بل إنّ شعوره بالانتماء الى بلده، مسقط رأسه مانتيلا، يكاد يكون هو المرجح، لأنّه، على ما يشرح، من الذين يمتّون بصلة أرضية بركن من أركان المدينة هافانا، «وهي مسقط رأس أجدادي، وجدي، ووالدي وحيث ولدتُ أنا بالذات، وحيث كان يمكن أن يولد أبنائي لو كان لي أبناء. وحيث لا أزال أقيم».
صدمة الحرب الأهلية
وشأن كلّ كوبي، أراد ليوناردو أن يكرّس نفسه للعب البايزبول، في البداية. ولكنّه تحوّل الى الصحافة عام 1980. وعاش سنة كاملة في أنغولا، إبان الحرب الأهلية فيها، وعاد منها بصدمة هزّت كيانه. ففي الكتاب «ما كان يرغب في حدوثه» قصّتان وهما «بوابة آلكالا» و «حدود الحب»، يعود فيهما المؤلّف إلى ما كان قد عاشه وخبره هناك، في أنغولا. ولدى عودته الى البلاد، كان عليه أن يختار، إمّا أن يبقى في الجزيرة، في ظلّ نظام متسلّط، وإمّا أن يمضي بقية حياته خارجًا. وكانت لبادورا أفكار نيّرة بيّنة، إذ كان يقول: «كنتُ مدركًا أنه بمجرّد مغادرتي كوبا، سوف يتسنى لي العيش بأحسن حال، بالتأكيد، ولكن لن تتاح لي الكتابة. أما في كوبا، فسوف أحيا على نحو سيّئ للغاية، إلاّ أنني سوف أظلّ أكتب. وكان الخيار الثاني هو الأرجح». وما دام أنّ كوبا والولايات المتحدة الأميركية التزمتا بمفاوضات في ما بينهما، فإنه أبدى أسفه من بطء هذه المفاوضات وما يترتّب عنه من التمهّل في إنهاء الحصار الاقتصادي على الشعب الكوبي، والكفيل بتطبيع العلاقات بين البلدين.
لقد كانت مسألة المنفى ولا تزال تشيع في أعمال الكاتب الكوبي ونصوصه كافة. وكانت روايته المسماة «النخلة والنجمة» (2003)، تدور أحداثها حول شخصية خوسيه ماريا هيريديا (1839-1803)، وهو سميّ أديب بارناسي آخر (من أصل كوبي أيضا) كان يُعدّ أعظم شعراء البلاد، وقد أُجبر على مغادرة بلاده بحجّة نزعته الاستقلالية الواضحة. في روايته «النخلة والنجمة» يستغرق المؤلّف في تأمّل مسألة المنفى على نحو مستفيض، حاصرا إيّاها في القرنين اللذين يفصلان ما بين الشاعر وبادورا: وكانت فصول الكتاب الممتدة الى الزمن المعاصر قد اقتبست للسينما من قبل لوران كانتت والمؤلّف نفسه، وكان الفيلم بعنوان «العودة الى إيتاكا» قد ظهر على الشاشة العام 2014.
مرايا التاريخ
إنّ أكثر ما يستهوي المؤلّف هو أن يبسط مسارده على مرايا التاريخ. فكان كتابه «الرجل الذي كان يحبّ الكلاب»، والصادر عام 2011، هو الرواية الأشدّ تأثيرا، من هذه الناحية. وفي هذه الرواية يعاود المؤلّف رسم حياة ليون تروتسكي، من العام 1929 الى يوم مقتله، في المكسيك عام 1940، والمتقاطعة مع حياة قاتله، الشيوعي الإسباني رامون ميركادير، بالإضافة الى شخصية ثالثة باسم إيفان، والذي وان كان بيطريا في الواقع، فإنه شاء أن يكون الكاتب الذي يدوّن الوقائع ويروي الأحداث. وبالعودة الى الكتاب الجديد الصادر للمؤلّف عن دار «ميتاييه» (2016) وهو بعنوان «ما كان يرغب في حدوثه»، وهو المقتبس من مارك أوريليوس، فإنه يتضمّن مسارد من كلّ الأنواع، والمسائل والذكريات التي كانت ترد في خاطر ليوناردو، من ولادة دعوته الى الكتابة حتّى بلوغه سنّ الرّشاد. ينطوي الكتاب إذاً، على ثلاثة عشر مسردًا، تمتد لعشرين سنة، يتقمّص فيها الكاتب شخصياته الهافانيين، المنكسرين، والعشّاق، والأسرى لماضيهم الذي لم يكن لهم يد فيه مطلقا، ويبثّ في نفوس قرّائه قدرًا من مشاعر الحنان والرقّة والأسى عاليا. وإليك أمثلة: فهذه السيدة العجوز «آديلاييد والشاعر» والتي تتهيّأ لأن تقرأ قصّتها التي ألّفتها على الكاتب الشاب ذي الصيت الواسع، يوم الخميس هذا، في مشغل الكتابة الذي يملكه. أو ننظر الى شخصية أخرى تدعى رافايلا، هذه التي حُكم عليها بأن تظلّ تؤدّي على البيانو الألحان نفسها، في أحد مطاعم هافانا، فتكتشف، ذات يوم، إذ تتأمل يديها، أنّها باتت عجوزًا.. ولسوف نجد في الكتاب معرضًا لقضايا أخرى، مثل الجنس والمخدّرات، والاستهلاك المفضي الى هلاك الحياة الروحية، هذه التي يستسهلها الشباب الكوبي. وبعد، هل يسعنا اعتبار باندورا كاتبا كوبيا، محدودَ الأفق بالمكان، ومحلّي الطابع، أم تراه، في محلّيته واستغراقه في تاريخ بلده ومشاغله إنما يخاطب الإنسانية جمعاء، وكلّ زمان ومكان وإنسان؟

 

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى