الميديا تتغير لا تحتضر… ثمة أفق جديد أكثر إغراء

عليا ابراهيم

أنتم المشـــكلة. الإعلام هو المشكلة. هذه هي خلاصة أغلب النقاشات التي أجد نفسي أخوضها حول أي موضوع أطرحه او حتى أستدرج أليه.
يدهشني في كل مرة كم هي غنية مروحة الشخصيات في حلقتي الضيقة التي تختصر مشكلات العالم بشقها الإعلامي، من والدتي، السيدة الملتزمة دينياً ـ وتلفزيونياً على رغم كرهها المعلن للإعلام ـ الى صديقي غير المتدين والمقاطع مقاطعة كاملة لكل إعلام سائد.
المعضلة بالنسبة إليّ ليست باعترافي بأن الإعلام هو جزء من المشكلة، كما هو جزء من الحل، ولكن بمعرفتي أن هذا الاعتراف، يأخذ النقاش، أي نقاش، في اتجاه آخر، عام، وبعيد كل البعد من الموضوع الأساسي.
في الدول الديموقراطية، كما في ظل حكم الديكتاتوريات الإعلام متهم بالتشويه والتضخيم.
الإعلام غير حيادي، ويخدم مصلحة الجهة الممولة له. الإعلام سطحي ويسعى الى تدجين المجتمعات والحد من ذكاء الأفراد فيها… كل هذه الاتهامات قابلة للنقاش، وعن وجه حق.
و لكن، لنتخيل وللحظة، عالماً من دون إعلام. من حيث التعريف التقني التقليدي، يعني ذلك عالماً من دون «استهلاك للمعلومات». عملياً، يعني ذلك، عالماً خالياً ليس فقط من الصحف، والمحطات الإذاعية والتلفزيونية ولكن أيضاً عالماً من دون «فايسبوك»، و «غوغل»، و «واتس آب»، وكل «الأبس» الأخرى التي باتت كلها مصادرنا الإعلامية…
قد يكون عالماً مريحاً وكافياً، بخاصة لمن هم مرتاحون في فقاعاتهم المعقمة، ولكنه سيكون عالماً صامتاً، خالياً حتى من مخيلة جماعية.
ليست هذه السطور للدفاع عن الإعلام بعامة، ما يعنيني هو الدفاع عن الشق الصحافي فيه، ليس فقط لأنه يصعب عليّ كصحافية أن أتراجع عن خياري بعد ان أصبحت في منتصف طريقي المهنية ولكن أيضاً، وأولاً، لأنني بعد كل الإنجازات، وما أقلها، والخيبات وما أكثرها، لا أزال مؤمنة بأن الصحافة ضرورة، ولأني لا أزال أرى أن الإعلام، بأشكاله التقليدية والثورية لا يزال المنصة الأكثر دفعاً ليس فقط للصحافة ولكن ايضاً للصحافيين، حتى في الأوقات التي يبدو فيها الطرفان على تناقض تام.

الأمثلة أكثر من أن تحصى
الأسبوع الماضي، حفلت وسائل الإعلام الأميركية بمواضيع عن قضية تيرانوس، الشركة الطبية التي وعدت بثورة على صعيد تكنولوجيا تحليل الدم، والتي لعب الإعلام دوراً رئيسياً في إنجاحها لتصل قيمتها خلال سنوات قليلة الى أكثر من تسعة بلايين دولار.
القصة بكل المعايير كلاسيكية. اليزابيث هولمز، ابنة التسع عشرة سنة والتلميذة التي فشلت في دراستها في ستانفورد، نجحت خلال أقل من عقد من الزمن بالوصول الى القمة والى لقب أصغر بليونيرة سناً، عبر بيع المستثمرين وهماً، والإعلام قصة.
حكاية الفتاة الصغيرة التي أخبرت والدها يوم كانت في التاسعة من عمرها عن حلمها باختراع ما «يغيّر العالم»، والمرأة التي رأت بستيف جوبز مثالها الأعلى ـ ترتدي الكنزة السوداء ذات القبة العالية مثله، ولا تأخذ يوم عطلة مثله، ومثله تنتهج السرية الكاملة داخل شركتها ـ حجزت هولمز مكانها في سيليكون فالي وعلى أغلفة أعرق الصحف والمجلات المتخصصة، من «فوربز» و «فورتن» الى «نيويوركر» و «نيويورك تايم ماغازين»… أقنعت المستثمرين وجاءت بالمستشارين، من بينهم هنري كيسنجر، وراحت تكدس البلايين.
لم يأبه المستثمرون، ومعهم المنظومة الإعلامية لما أكده المتخصصون على مدى عقد من الزمن عن عدم أمكانية نجاح الاختراع الذي وعدت به لأسباب علمية، حتى بعد انتحار كبير باحثيها تحت الضغط.
وحده جون كاريرو، الصحافي في «وال ستريت جورنال» لم تقنعه أجوبة هولمز. على مدى أشهر، راح يبحث ويدقق وينشر المعلومات الى أن فرض حكاية جديدة، مضادة، لتبدأ بالنسبة الى هولمز بداية النهاية، ولتتحول بين ليلة وضحاها من امرأة تبلغ قيمة ثروتها ٤.٥ بليون دولار، الى «لا شيء» كما قالت «فورتن ماغازين».
في مقابلة مع «فانيتي فير»، قال كاريرو إن ما استفزه هو مقارنة هولمز بين شركة تكنولوجية وأخرى طبية. «هاتف لا يعمل جيداً، يسحب من السوق وتنتهي القضية، لكن اختراعاً طبيٍاً سيئاً يمكن ان يقتل أناساً، وهذا أمر لا يمكن السكوت عنه».
في التزام ومهنية وحماسة كاريرو وأمثاله، ما يلهمني ويعنيني بالدفاع عن المهنة. هذا ليس دفاعاً عن الصحافيين كأشخاص، هم ليسوا ملائكة، وفي كثير من الأوقات هم أشخاص لا يطاقون على الصعيد الشخصي. في مقالة نشرتهاColumbia Journals Review أعتبر مراســـل «واشنطن بوست» والتر بنكس ان نرجسية الصحافيين من أهم الأخطار التي تواجه الصحافة، و ليس مصادفة ان نسب الطلاق، والأدمان وحتى الانتحار هي من الأعلى بين الصحافيين، كل هذا لا يغير من حقيقة، أن الصحافة لا تزال من بين المحركات الأفضل لإحداث أي تغيير في اي مجمتع.
في ضوء ما وصلت اليه السوشال ميديا، هناك من يرى أن الصحافة تموت، وأخرين، وأنا من بينهم، يرون ان الفرص كبيرة على رغم التحديات.
معرفتي أن عدداً كبيراً من الصحافيين المحترفين، بمن فيهم حاصلون على جوائز بوليتزر، ينتقلون للعمل في شركات العلاقات العامة، لا تقلل من حماستي لما يقوم به، صحافيون، في كل مكان، دفاعاً ليس فقط عن مهنتم، ولكن ايضاً عن صوتهم، ودورهم ومكانهم في هذا المشهد الإعلامي الفوضوي.
أنها من دون شك مرحلة تجريبية ولكنها تملك أيضاً ما يجعلها مرحلة تأسيسية بالنسبة الى الصحافيين الطامحين للوصول الى صحافة «مستقلة» على رغم قناعة غالبيتهم أن الأمر يكاد يكون خيالياً.
فالاستقلال عما يكون؟ عن المال السياسي؟ عن سوق الإعلانات؟ عن أجندات الجهات الممولة؟ عن ما هو شعبي ومطلوب من القراء؟
الصحافة مهنة مكلفة، لم ولن تكون يوماً مجدية اقتصادياً. كانت وستكون دوماً مغرية للاستغلال الإعلامي والسياسي والإعلاني، ولكنها مهنة استطاعت على مدى عقود ان تدافع عن نفسها، أولاً وأخيراً بسبب المؤمنين بضرورتها، أياً كانوا، وأينما كانوا.
عصر التكنولوجيا، أعطى الصحافيين، أفراداً كانوا او مجموعات صغيرة، مساحات خارجة عن سيطرة المؤسسات الكبرى. من نموذج البلوغ الشخصي، الى شركات التكنولوجيا، الى المنصات المستقلة.
من The Dish الذي أثبت Drew Sullivan من خلاله ان في امكان صحافيين مستقلين ان يوصلوا صوتهم الى أبعد حدود عبر منصاتهم الخاصة، الى تجربة كتاب Liberation الذين اطلقوا موقعهم Les Jours عبر تمويل قراءهم، مثلهم صحافيون هولنديون أطلقوا مواقع ناجحة عدة على رأسها موقع The Correspondents، وصولاً الى تجربة FreePressUnlimited الممولة من منظمات دولية داعمة للإعلام والتي تساعد صحافيين مستقلين في كل أنحاء العالم على نشر أعمالهم وبيعها، لأن «للعالم الحق بأن يعرف».
وراء كل هذه المؤسسات، من هو مؤمن بأهمية الصحافة، ومن يسعى الى جعلها تستمر.
نجح كثيرون بإقناع قرائهم بجودة منتجهم، لدرجة فرض مبدأ ان القارئ بات مستعداً ان يدفع من أجل الحصول على معلومات أقل وليس أكثر، كما تقول جوليا كاجيه، محللة اقتصاد الوسائل الإعلامية والاستاذة في Sciences Po.
والســـؤال اليوم هو عن استـــمرارية هذه المشاريع، بالتالي عن قدرة من يقدمون منتجاً ومحتوى جيداً على «تقريش» نجاحهم كما يقال في لغة السوق.
هل هذا ممكن؟ عشرات الدراسات المنشورة على المواقع المتخصصة تؤكد ذلك وتقدم مروحة من الاستراتيجيات، بدءاً من التحالفات عبر الationAffiliate Marketing وصولاً الى بيع المنتجات الخاصة بما فيها الأبس والألعاب الألكترونية مروراً بالاعلانات والـ Sponsored Contents او استثمار القراء CrowdFunding او دعم المنظمات.
ليس الأمر مقامرة. الصحافة كقيمة تم تجريبها وأثبتت انها لا تزال صالحة، ولكن شروط اللعبة من دون شك تغيرت، فيا حضرات السادة الصحافيين، تفضلوا الى الطاولة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى