ذكرياتي مع ميشيل بيتور

د. فوزيه العشماوي

غيب الموت مؤخرًا الاديب الروائى الفرنسي الكبير ميشيل بيتور (1926-2016).

لقد عرفته زميلًا في جامعة جنيف حيث كان يدرس الادب الفرنسي وكنت أنا أدرس الأدب العربي وكنا نلتقي يوم الأربعاء من كل أسبوع في الخامسة مساءً لإعطاء محاضراتنا هو في المدرج 112 وأنا في المدرج 110، وكنا نتمشى قبل المحاضرات في الممر الذي يفصل بين المدرجات. وكان عندما يراني يرحب بي قائلًا: مرحبًا بحفيدة حتشبسوت، وكنا نتجاذب أطراف الحديث.

حكى لي عن ذكرياته في مصر عندما كان يقوم بتعليم اللغة الفرنسية في مدرسة المنيا الثانوية بنين، وذلك في إطار مشروع ثقافي تحت رعاية وزير المعارف في مصر حينذاك الدكتور طه حسين لتعليم اللغة الفرنسية في المدارس الثانوية.

وذكر لي أنه أثناء إقامته في المنيا بدأ كتابة روايته الاولى “ممر ميلانو” التي نشرها بعد عودته إلى باريس في عام 1954.

وأخبرني أنه في طريق عودته زار منطقة الأهرامات وأبي الهول في الجيزة ووقف مشدوهًا أمام ضخامة وعظمة الفن الفرعوني، لكنه عندما عاد إلى مصر بعد ذلك بعدة عقود وتحديدًا عام 2006 بدعوة من فاروق حسني، وزير الثقافة، حينذاك، وذهب لزيارة منطقة الإهرامات وابي الهول أخبرني بأنه كاد يبكي من شدة الألم والحزن بسبب العشوائيات التي انتشرت في المنطقة وشوهتها.

كما أنه دوّن، فيما بعد، انطباعاته عن مصر في سلسلة “عبقرية المكان” التي نشر الجزء الأول منها عام 1958 عن رحلاته الأولى إلى مصر وإسبانيا وتركيا، وقد كتب فيها عن ذلك السحر الفريد النابع من المكان وتأثيره على أفكاره كما أنها تحتوي على تاريخ أهل البلد وتطورها عبر العصور.

ولا يستخدم بيتور في هذه النصوص أسلوب سرد متصل، بل يقفز من فكرة إلى أخرى مع تنقلاته من مكان لآخر، وهو لا يسرد أي مغامرة حدثت له شخصيًا إلا إذا كانت ذات علاقة مباشرة مع المكان. (ولقد ترجمت مقاطع من هذا الكتاب إلى اللغة العربية).

كما أخبرني أنه تأثر بوالده الذي كان يعمل موظفًا في هيئة السكك الحديدية الفرنسية؛ لذا احب ركوب القطارات، بل وجعلها مسرحًا لأحداث أشهر روياته “التعديل” التي تدور في القطار المتجه من باريس إلى روما.

كما تأثر ميشيل بوالده الذي كان محبًا للرسم والموسيقى ونقل هذا العشق إلى ابنه، ولذلك نجد ميشيل بيتور يهتم اهتمامًا شديدًا بالرسم والموسيقى في إنتاجه الإدبي حيث نشر عددًا كبيرًا من الكتب النادرة التي كتب فيها أشعارًا متداخلة مع رسوم ونوت موسيقية لكبار الموسيقيين.

وعندما انتهيت من إعداد أطروحتي للدكتوراه عن “تطور المرأة في رويات نجيب محفوظ” عام 1983 اخترت ميشيل بيتور ليكون رئيسًا للجنة التحكيم لمناقشتها. فرحب بذلك وقرأ الــ 800 صفحة ومنها ترجمة فرنسية لرواية “ميرامار” لنجيب محفوظ وأعجب بها كثيرًا، وأشاد بالتكنيك الفني الذي اعتمده نجيب محفوظ في هذه الرواية والرمزية التي انتهجها في رسم شخصية بطلة الرواية “زهرة” التي ترمز الى مصر.

وقد شجعني بعد ذلك على الكتابة والبحث وكان يقول لي: لا تعتقدي أنك بحصولك على الدكتوراه قد وصلتي إلى نهاية المطاف لأنك حصلت على أعلى الدرجات الجامعية، وتأكدي من أنك وضعتي قدمك على أول سلم الطريق، وأمامك طريق طويل للبحث والكتابة والتأليف.

رحم الله ميشيل بيتور الروائي المبدع رائد الرواية الحديثة، والإنسان المتواضع الحيي البسيط الذي اختار أن يعيش بعد إحالته إلى المعاش منعزلًا عن ضجيج عاصمة النور، باريس، وفضل قضاء بقية عمره في قرية صغيرة هادئة في ضواحي جنيف بالقرب من جبل ساليف في المقاطعة الفرنسية “هوت سافوا”. لقد عاش بسيطًا بعيدًا عن الأضواء وصراعات الجوائز الأدبية رغم أنه بإنتاجه الغزير كان يستحق أعرق الجوائز وأرفع الأوسمة.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى