«النباتية» رواية كوريّة «قاتمة» تفوز بالبوكر

مودي البيطار

هي المرة الأولى التي تُمنح جائزة مان بوكر الدولية في صيغتها الجديدة بعد التعاون مع صحيفة «ذا غارديان» البريطانية. باتت تكافئ عملاً واحداً كل سنة بدلاً من مجمل الأعمال كل عامين، وتقسم قيمة الجائزة المالية، البالغة خمسين ألف جنيه استرليني، بالتساوي بين الكاتب والمترجم. يجعل ذلك الأخير شريكاً كاملاً في العملية الإبداعية، أمر يظلم الكاتب، وربما كان من الأفضل تخصيص جائزة منفصلة للمترجم الذي لا يُعطى دائماً حقّه في التكريم. آخر الفائزين بمان بوكر الدولية الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ، عن روايتها القاتمة «النباتية» الصادرة عن دار هوغارث. ترصد كانغ بحساسية فائقة الفردية والوضع النسائي في مجتمع أبوي متملّك، التقاطع المثير للشك بين الفن والحياة، وتتساءل عن التعريف الاجتماعي الجامد، والظالم، للتمرد والاختلاف، السلامة العقلية والجنون. «النباتية» رحلة أليمة نحو الغياب والعدم، تتابعها هان عبر رجل وامرأتين.
يخبر مستر تشيونغ القارئ عن زوجته العادية التي تمتنع فجأة عن تناول اللحوم وطبخها، مبررة قرارها، بحلم تكشف تفاصيله للقارئ لا لزوجها. ترى يونغ – هاي الدم يلطّخ فمها وثيابها ووجهاً منعكساً في بركة دم، وسكيناً تقص إصبعها، وتربط الحلم الذي يتسبب بأرقها بتناول اللحوم. تحس بكتلة تنمو في صدرها وتعيق تنفّسها فتتوقف عن ارتداء حمالة الصدر، وتحرج زوجها أمام مديره. كانت حسنتها الوحيدة، يقول، إجادتها الطبخ، وها هي تمتنع أيضاً عن ممارسة الجنس لأن رائحة اللحم تنبعث من جسده. تثير شكواه ذعراً وأزمة وشعوراً بالخزي في أسرتها، ويعاقبها والدها، الجندي السابق، بضربها ووضع اللحم عنوة في فمها. ترد بقطع شرايين يدها، وتنقل الى المستشفى حيث تخلع ثوبها في الحديقة وتشد بيدها على عصفور عضّته وقتلته.

شاعرية عميقة
الجزء الثاني عن زوج شقيقة يونغ – هاي، وهو القسم الأجمل والأكثر قتاماً بشاعريته العميقة الكثيفة. زوج إن – هاي الذي لا نعرف اسمه، فنان فيديو يوحي الخضوع للتقليد، لكن تعبيره مجدّد لا يخشى التطرف، الجنسي وغيره. يهجس بالفن المختلف المختلط بالروح والحياة والرغبة، ويخشى خسارة موهبته بعدما تخطى منتصف الثلاثين وقلّ شعره وبرز كرشه. يُصعق حين يرى ملصقاً لعرض مسرحي ألحّت صورته عليه طوال عام. رجال ونساء يمارسون الجنس وهم عراة إلا من رسوم لأزهار ملونة على أجسادهم. خطرت له الفكرة حين علم من زوجته أن على جسد شقيقتها علامة ولادة زرقاء صغيرة. رأى فوراً زهرة زرقاء على مؤخرة امرأة، ورجالاً ونساء رسمت أزهار على أجسادهم العارية يمارسون الجنس. كانت المرأة شقيقة زوجته، والرجل الذي يستعد للنوم معها هو نفسه.
يجهد للتحرر من الفكرة، لكنه لا يجد بديلاً لها. يفكر بتحقيقها في فيلم فيديو، ويدرك أنه سيُصنّف خلاعياً، لكنه يتحرر من القيود في فنه الذي يتناول قضايا اجتماعية. تصيبه الصورة الملحة بالقلق والشك والانقسام، ويتساءل إذا كان إنساناً سويّاً وأخلاقياً قادراً على ضبط نزواته. ثمة صرخة مكبوتة تكاد تنفجر من أعماقه، ويبدو له أنه يرى دموعاً على وجهه في صورته المنعكسة في المصعد. كانت زوجته المرأة التي بحث عنها، لكن نقصها شيء لم يعرفه إلا حين قدّمته الى شقيقتها بعد زواجهما. كانت يونغ – هاي بشعة ربما مقارنة بزوجته، لكنها شعّت طاقة، وبدت مثل شجرة في البرية. حين قطعت رسغها حملها الى السيارة فتشرّب قميصه دمها، وتخيّل نفسه يرفع سروالها ليرى العلامة على مؤخرتها. شمّ رائحة الدم في السيارة، وخُيّل إليه أنه لن يستطيع تحقيق فيديو آخر بعد ذلك اليوم لعجزه عن التكيّف مع الأشياء التي لوّثتها الحياة. يتذكّر كيف صرخت حين هجم والدها ليضع اللحم في فمها، وكيف هاجمت هي أيضاً جسدها بالسكين. لم تثر اهتمامه قبل تحولها نباتية ومعرفته بالعلامة، وعليه الآن تنفيذ الفكرة. يزورها متظاهراً أن شقيقتها قلقة عليها، ويفاجأ ببراءة عريها الذي استخدمه كنوع من الخلاعة العقلية. ترتدي ملابسها بلا حرج، ويبدو صوتها مثل الريشة، بلا وزن. توافق أن يصوّرها، وينام مع زوجته وهو يضع يده على فمها لكي لا يسمع صوتها الأنفي، ويرى شقيقتها بدلاً منها. تبكي إن – هاي وتخافه.

علامات
في الاستوديو، يرى العلامة الشاحبة الزرقاء – الخضراء نباتية أكثر منها جنسية. يرسم جسمها بالأزهار بدءاً بالعلامة، ويصوّر نفسه وهو يرسمها. كان جسد شابة جميلة يُفترض أن يكون موضع الرغبة، لكنه خلا منها تماماً لرفضها الحياة فيه وتركها جماله يتشظى باطّراد. يتذكر زوجها السابق ذا الوجه الجاف الذي لم يهتم إلا بالعادي، ويتخيّل شفتيه البذيئتين على جسدها. يشعر بالخجل، إذ يبدو جسداهما المتلاصقان مهينين، مدنّسين وعنيفين. يشعر بحيويّته وهو يرسمها، ويبدو فعله مقدّساً بقبولها الهادئ. تقول إنها تريد بقاء الزهورعلى جسمها حين ينتهي، ويحس وهو يوصلها الى بيتها أنه تحرّر من الرغبة التي عذّبته عاماً طويلاً. يرى الفيديو ويرغب في تحقيق فيلم آخر عن رجل وامرأة يمارسان الجنس وهما مرسومان بالزهور. تقبل يونغ – هاي وتشعرها الأزهار بالرغبة، لكن زميله الفنان الشاب ج. يكتفي بالرسم والحركات الموحية ويرفض الجنس. كان كل شيء كاملاً، تماماً كما في المسوّدات، واقترح أن يحل محل الشاب فقبلت فقط حين قال إنه سيغطي جسمه برسوم مماثلة. كان الجنس اتحاد صور منفرة وجميلة في آن، وارتجف منه. لم تتنهّد مرة واحدة في ثلاثين دقيقة، وبقيت عيناها مغلقتين ثم انفجرت باكية قبيل انتهائهما. أوقف التصوير فضغطت على أسنانها، وصرخت بخشونة وطلبت لاهثة أن يتوقف. سألته بعد انتهائهما إذا كان الحلم سيتوقف، إذا كان الوجه المرعب الذي اتخذّ أحياناً جسد جثة عفنة سيغيب. ناما وحين استفاق رأى زوجته تحدّق فيه.
التقت إن – هاي زوجها حين دخل متجرها ليشتري معجون حلاقة، وبدا ضعيفاً الى درجة سينهار معها. سألته إذا كان تناول الغداء، وجذبتها هشاشته. كانت تركت أسرتها في التاسعة عشرة، وكافحت حتى أسّست متجرها الذي توسّع باطراد. شاءت أن تريحه بقوتها، لكنه بدا مرهقاً دائماً حتى بعد زواجهما، وغاب على رغم تحقيقه أعمالاً قليلة حتى بدا مسافراً يأوي الى المنزل ولا يعيش فيه. تفكر الآن أنه جذبها ربما لأنها رأت إرهاقها هي في تعبه. أحبّ طيبتها وهدوءها وقال إنه لا يستحقها. لم تعرفه حقاً، وخلا وقتهما القليل معاً من السعادة والتلقائية. اختلف حزنه عن شجن شقيقتها، لكنهما كليهما هبطا الى الصمت. صغرتها يونغ – هاي بأربعة أعوام، وأحست بأمومة ومسؤولية تجاهها، لكن هل يصحّ أن تبقى شقيقتها في المصح طوال حياتها؟ انسحبت من نفسها، وابتعدت عنها، لكنها تشعر بالذنب لأنها أودعتها المستشفى ورفضت إخراجها حين قال الطبيب إنها يمكنها العيش معها. لم تغفر لها قدرتها على تخطي الحدود التي بقيت هي أسيرتها، لكنها تتساءل ما إذا قدرت على إنقاذها من الانهيار ولم تفعل.
تتجه إن – هاي الى المستشفى بعد اختفاء شقيقتها والعثور عليها واقفة مبللة بالمطر بين أشجار الغابة كأنها واحدة منها. تتوقف عن الكلام وتناول الطعام، فتُطعم غصباً بالأنبوب ما يؤلمها ويغضبها. تقف على يديها ورأسها «كالأشجار» وتحلم بأوراق تنبت من جسمها، قائلة إنها لم تعد حيواناً وإنها تحتاج فقط الى الماء والضوء. هبط وزنها الى ثلاثين كيلوغراماً وتوقف حيضها ، فهل تريد العودة طفلة أو الموت؟ كانت الضحية الوحيدة لعنف الأب الذي بقي يضربها حتى بلغت الثامنة عشرة. تجنّبت إن – هاي قسوة الأب بالتضحية ومساعدة والدتها، لكنها تعرف الآن أن طيبتها وقدرتها على التحمّل زيّفا جبنها. لم تعش طفولتها، وتخشى في المحطة أن ترمي نفسها أمام القطار. امتصّت يونغ – هاي عذابها حتى نخاع العظم، ووقفت هي جانباً. لماذا لم تمنع زواجها من مستر تشيونغ البارد أو ضرب والدها؟ تتذكّر كيف ركض زوجها الى الشرفة ليرمي نفسه حين داهمته مع شقيقتها. اختفى ولم ترغب في رؤيته ثانية، لكن الفيلم لا يبدو مع مرور الوقت جنسياً كثيراً. يوحي الجسدان المرسومان بالأزهار والأوراق والجذوع كأنهما ينفضان عنهما كل ما هو بشري وحيواني. وإذ تقف بين الأشجار تحس بأنها تريد الذوبان في إحداها. تلتقي أخيراً مع شقيقتها. هي أيضاً تحلم لكن الفارق أنها تريد النهوض من الحلم.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى