علي جعفر العلاق يخاتل سيرة النص في «حياة في القصيدة»

ابراهيم خليل

علي جعفر العلاق هو واحد من شعراء الستينيات الذين تجاوزا بعطائهم الإبداعي فكرة التصنيف الزمني، فمنذ بداياته المبكرة والغضة، كشف عن قدرات إبداعية تتجاوز جيله، والجيل الذي سبقه، وتقدم عليه. ففي الكتاب الذي ظهر مؤخرا عن دار كنعان للنشر في دمشق (2015) بعنوان «حياة في القصيدة» أبياتٌ نظمها في بواكيره تشف عن رؤية جديدة تتخطى المألوف، والسائد، لما ينبغي أن تكون عليه لغة الشعر، يقول في نموذج يعود نشره إلى عام 1973 :
أبحرتُ والجوعُ على مركبي يبكـــي وتهذي عطشًا مقلتانْ
أتيت نعشًا صــــــرْتُ قيثارةً محروقة يأكـل منها الدخانْ
تلتفُّ في أوتــارها عشـْــــبَةٌ من جرحيَ الطينيِّ، فوْقَ اللسانْ
ومن يمعن النظرَ في الأبيات، لا يلاحظ كثافة المجاز فيها فحسب، بل يلاحظ أيضا أن هذه المجازات، التي يتلو بعضُها بعضًا، مجازاتٌ حيوية، وجديدة، ومبتكرة، وليست كتلك التي جرى تداولها تداولَ قطع النقود حتى أصبحتْ مستهلكة، زائفة، أو كما يقال لها: استعاراتٌ ميّتة.
وفي هذا الكتاب، إذا تجاوزنا أيضًا ما أجاب به الشاعر على تساؤلات عبد اللطيف الوراري ـ من المغرب- حول الولادة والنشأة، في قرية من قرى الكوت، التي أصبحت محافظة واسط، والعلاقة بين الشاعر وأفراد الأسرة: الأم، والأب، والإخوة، والانتقال من جنوب العراق إلى وسطه (بغداد)، والتنقل التدريجي في الدراسة، والقصيدة الأولى، والتراث الشعبي الشفوي، وأثره في تكوينه الشعري، إذا تجاوزنا ذلك كلَّهُ، إلى ما له علاقة مباشرة بالشاعر العلاق، وشعره، وجدنا الكتاب ـ في مجمله- يُحدّدُ لنا تحديدا دقيقا بداية مساره الشعري، فأول قصيدة نشرت له كانت قصيدة «إلى صديقة مسافرة» 1964 وقد ظهرت في مجلة «العاملون في النفط» وكان الأديب الراحل جبرا إبراهيم جبرا، يومذاك، رئيس التحرير، بما طُبعَ عليه من ذوق رفيع، قادر على اكتشاف ما هو متميز لنشره، وقد كان تقديمه للقصيدة على غيرها من قصائد العدد مؤشِّرًا على إعجابه بها، وتفضيلها على سواها من أعمال لشعراء مشهورين. وتلك بادرة ترسّخ الثقة في نفس الشاعر الواعد، ولهذا طفقَ العلاقُ، وما برحَ، ينشر قصائده في «الأديب»، و»الآداب»، ومجلة «الشعر» المصرية، وغيرها، حتى كان عام 1973 حينَ ظهرت أولى مجموعاته عن دار العودة في بيروت، وهي بعنوان «لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء».
تلك البداية حدَّدت للشاعر العلاق الاتجاه الذي ينبغي له أن يواصل السير فيه. فقد دأب على التحرُّر من أي أثر، أو تأثير، قد يتركه الشعراء الكبار في شعره. صحيح أنه قرأ بإعجاب شعر السياب والبياتي، وجبرا، وأدونيس، إلا أن هاجسه على الدوام هو ألا يقع تحت تأثير أيٍّ من هؤلاء الشعراء. وقد ألحَّ على هذا في كتاب له بعنوان «قبيلة من الأنهار» مؤكدًا على أن الشاعر الحقيقي هو الذي يحرص على عدم الانفصال عن التراث الشعري، وألا يكون صوته منفصلا عن صوت الأسلاف، وفي الوقت نفسه ينْبغي أنْ يكون له صوتُه الخاصّ، وتبعا لذلك اجتازت شاعرية العلاق جلَّ المُنْعرجات، من دون أن تغلب عليها شعريَّة أيٍّ من كبار الشعراء، فمن الشعر الشعبي، إلى شعر الشطرين، ثم إلى قصيدة التفعيلة، وأخيرًا قصيدة النثر، التي تلتزم التزاما شديدا بالقوانين الحرفية للشعر، لأن تغييب هاتيك القوانين عن القصيدة يجعل منها حديثا (سائبا) يفتقر لبراهين نصية ملموسة، وهذا للأسف ما هو شائع الآن « فالكثير مما يكتبُ محْسوبًا على قصيدة النثر،لا يمتُّ بصلةٍ وثيقةٍ لهذا الشكل الشعريّ، بمعناه المُحدَّد الدقيق».

طقوس الكتابة

ويميلُ العلاق للكتابة ليلا، فمعَ اندلاع شرارة النص الأولى، يستمر اشتعالها عابرًا تموجات الزمن. وهو لا يفتأ يراودُ النص، والنص يراوده، إلى أن تستقيم له لغة القصيدةِ، وتسْلُسُ، مراعيا ألا تكون جافة تفتقر لما يسميه لوعة القلب، مبرأة من الإحساس بالفجيعة، أو الإحساس بالفرح، أو بعيدة عن الأجواء التي تشدُّهُ إلى التراث الشفاهي، والإبداعي المدوَّن، وإلى التاريخ أو الأساطير. فاللغة الشعرية في رأيهِ لا تنفصل قطعًا عن التراث بتجلياته الميثولوجية والروحية. فأولُ الأقنعة التراثية التي تتخلل شعره كانت مستمدة من التراث، وتحديدًا من ابن زريق البغدادي.

الشعْرُ والأيديولوجيا

والعلاقُ، كغيره من الشعراء الكبار، يرفُضُ رفضًا قاطعًا وشديدًا تلك المعايير التي تقيسُ جودة الشعر بما فيه من أيديولوجيا. وإلى هذا يعزو تجنب النقاد الحديث عنه، وعن شعره، ذلك لأن التدافع لاحتلال موقع الصدارة، اعتمد منذ البدء على الولاءات الأيديولوجية، لا على الشعري. ولهذا ثمة نقاد حملوا إلى شجرة الإبداع اشخاصًا متشاعرين، غيرَ موهوبين، ووضعوهم على الذروة منها، على الرغم من أنهم جاءوا بهم من خارج الحلبَة، وتبعًا لذلك أصبحت لكل شاعر من هؤلاء قبيلة أيديولوجيّة، ومن لا يعد في هذه القبيلة حظهُ الإقْصاءُ، والتهميش. وهذا شيء لا يزعجُ العلاق كثيرًا؛ فالزمن، والتاريخ الأدبي، كفيلان بغربلة كل شيء، وَمَنْح الشاعر الحقيقي موقعه المناسب من التاريخ الشعري، في حين أن الآخرين، الذين جاءوا على أكتاف النقد المُجامل الرخيص، والنقد المتحيّز، والأيديولوجي، مصيرُهُم الهامِشُ. يقول في واحدةٍ من قصائده، عنوانها «مائدة الشاعر» ما يأتي:
من سأدعو إلى جلْستي
من سيُشاركني خُضْرةَ الروح
أو مَطَرَ المائدة
لا نبيذي نبيذهُمُ، لا هوايَ
هواهمْ، ولا تلكمُ الغيمَةُ الصاعدة
تستفزُّ طفولتهم،
شجرٌ خاملٌ، وأرائكُ من خَشَبٍ،
ونفاقُ قديمينَ
يا ورَقَ الضوء
يا دفءَ غزلانِهِ الشاردَةْ
أين أصْبحتما
إنَّ من لا يجيد فنَّ العلاقات العامّة، قد يجيدُ فنَّ كتابة الشعر الرقيق، ويجيدُ فنَّ الرسْم بالكلمات، وخلخَلْة القوالب المتحجِّرة للغة السائدة بمَجازاته المُبْتكرة، وإيقاعاته الأنيقة الرَخيمَة، التي تشنفُ الآذان، ويجري بها اللسانُ جرْيَ الألحان.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى