شكوك الإنسان المعاصر في اقتباسات سينمائية لافتة من الأدب

محمد موسى

كانت الأيام الثلاثة الأخيرة من  مهرجان تورونتو السينمائي (8-18 أيلول/ سبتمبر) هادئة إلى حد بعيد على الصعيد الإعلامي، كما ندرت فيها العروض العالمية الأولى للأفلام الجماهيرية التي تستقطب الاهتمام عادة، وقلَّ عدد المؤتمرات الصحافية للنجوم مقارنة بالأسبوع الأول من المهرجان الذي كان مُزدحماً بها. واختلفت كذلك برمجة الصالات السينمائية التي تعرض أفلام المهرجان، إذ تضاءل عدد عروض الصحافيين الخاصة، والذين غادر معظمهم الى دولهم، ليفسح المجال للجمهور الذي زاد حضوره في الأيام الختامية من المهرجان، بعد أن اتضحت الصورة قليلاً حول الأفلام المعروضة هذا العام، ليسهّل هذا من عملية اختيارات الجمهور الخاصة لما يرغب في مشاهدته. هذا على رغم الانطباع المتشكّل بأن الجمهور الكندي لا يمانع اكتشاف أفلام مجهولة، ويعتبر ذلك جزءاً من التجربة الخاصة التي يوفرها مهرجان تورونتو السينمائي.

عمالقة هوليوود
وكــان لافــتــاً الحــضـور الكبــير للاستديوات السينمائية الأميركية العملاقة في تورونتو، والتي رافق بعضها أفلاماً هوليوودية عُرضت في المهرجان. لا تبدو المناسبة السينمائية الكندية كأنها تخيف هذه الاستديوات، والتي لا تهتم عادةً بالمشاركة في المهرجانات السينمائية، أو تعريض أفلامها لنقد الصحافة المكتوبة المبكر، والذي لا تحتاجه. والحال أن كندا تمثل أهمية كبيرة لهوليوود، فهي تخضع لسياسة التوزيع ذاتها الخاصة بالأفلام الأميركية في الولايات المتحدة. كما يشجع غياب الجوائز الرئيسية عن مهرجان تورونتو هذه الاستديوات على المشاركة، ومن دون الدخول في منافسات غير ضرورية (هناك جوائز للأفلام الكندية المشاركة، وجائزة الجمهور لأفضل فيلم، وجائزة جديدة مستحدثة لأفضل مُخرج من العالم).
وحتى قبل انتهاء المهرجان، بدأت الصحافة السينمائية الأميركية بنشر قوائمها لأفضل الأفلام المعروضة في المهرجان، وقوائم أخرى للأفلام الأميركية التي ستكون لها حظوظ في جوائز الأوسكار المقبلة. فمن هنا، تتحدد وعلى نحو كبير هوية الأفلام الأميركية التي ستتنافس على الأوسكار. ومن الأفلام التي حظيت باهتمام إعلامي وشعبي كبير، جديد المخرج الأميركي المعروف أوليفر ستون «سنودون» عن الأميركي إدوارد سنودون الذي كشف أسراراً عن المخابرات الأميركية قبل سنوات قليلة، والذي وصف بأنه عودة قوية للمخرج الى الأفلام الكبيرة وبعد عقدين عجاف من الأفلام المتوسطة المستوى (سنعود في مقالة مقبلة الى الفيلم). كما يبدو أن فيلم «لا لا لاند» الموسيقي للمخرج داميان شازيل، سيكون أحد أفلام العام الشعبية (فاز بجائزة الجمهور في مهرجان تورونتو)، واعتبر أداء نجميه: ريان غاسلينغ وإيما ستون، من الأداءات التي سيحسب لها حساب في التنافس على جوائز الأوسكار لأفضل تمثيل رجالي ونسائي.

حيوانات ليلية
وإذا كان يُمكن والى حدود كبيرة، تخمين القضايا وأحياناً المناخات السينمائية لجديد مخرجين معروفين مثل أوليفر ستون، فإن هذا كان صعباً كثيراً مع جديد المخرج الأميركي توم فورد، فمصمّم الأزياء الذي تحوّل للإخراج قبل سبعة أعوام عندما قدم فيلمه الأول «سنغل مان»، ما زال أسلوبه ومرجعياته وهمومه السينمائية غير معروفة بالمرة، وفيلمه الثاني الذي عرض في تورونتو («حيوانات ليلية»)، يأتي ومثل فيلمه الأول من المجهول، مغلفاً ومثل سابقه بغموض مغرٍ. بيد أنه يمكن وبعد هذا الفيلم، الحديث عن كلاسيكية وأسلوب خاص بالمخرج. لم يستعجل فورد والذي لا يزال نشطاً في مجال عمله الأصلي، لتقديم فيلم جديد، فبحث بهدوء وبطء عن قصة يمكن تطويعها ليخرج منها بفيلم يتضمن البناء التقليدي الهوليوودي المعروف، لكن بتحديثات شكليّة عصرية مثيرة للغاية.
يستند الفيلم الى رواية للكاتب الأميركي أستين رايت، تدور حول الانتقام والثأر.
ويبدأ بالبطلة الثرية القلقة والتي يخاصمها النوم وهي تستلم مسودة لرواية كتبها زوجها السابق الذي تركته قبل عشرين عاماً من أجل الارتباط بشاب غني، بات اليوم زوجها ويخونها مع آخريات. يسير الفيلم على ثلاثة خطوط: الأول عن البطلة في حياتها المعاصرة، والثاني استعادة لحياتها مع زوجها السابق، والثالث أفلمة للرواية المرعبة التي كتبها الزوج السابق، والتي ستزيد من اضطراب البطلة واغترابها. من المشهد الافتتاحي للفيلم، نعرف أننا أمام فيلم أخّاذ سيتحول الى أحد كلاسيكيات السينما الحديثة. لا يثقل غموض علاقة قصة الرواية المتخيلة التي كتبها الزوج بقضية الانتقام في الفيلم، بل تبدو أنها تفتح آفاقها على عتمة وأسرار بلا أجوبة.كما يقود المخرج ممثيله الرئيسيين (إيمي أدامز، جيك غيلينهال، مايكل شانون) الى ذروات أدائية مذهلة، بخاصة إيمي أدامز التي كانت تتنقل بسلاسة مبهرة بين دور الفتاة العشرينية والمرأة الناضجة الهشة في منتصف العمر.

بطل فوق الخمسين
وفي اقتباس سينمائي آخر لنص أدبي، تبني المخرجة الأميركية روبن سويكوورد فيلمها «ويكفيلد» على قصة قصيرة للكاتب أي.أل.دوكتورو، والتي يدور كثير من وقائعها في ذهن «هاورد ويكفيلد»، المحامي الأميركي المتبرم من حياته، والذي يقرر في لحظة جنون، الاختباء في الطابق العلوي لبناية كراج بيته والتي لا يدخلها أحد، ليبدأ من هناك بمراقبة زوجته وابنتيه التوأم. تحوّل المخرجة الحوار الداخلي لشخصيتها الى لغة سينمائية متحررة، لا تقيدها اللغة الأدبية الفخمة التي يستخدمها «ويكفيلد» للتعليق على حياته. يبقى البطل في عليّة كراجه لعام كامل، متلذذاً بالإحساس بوجوده، والذي سيكتشفه في حزن زوجته عليه، وليتساءل عبر علاقته مع زوجته عن حياته هو نفسه وكيف وصل الى هذه النقطة منها.
يلعب الممثل الأميركي بريان كرانستون، والذي أطلق المسلسل التلفزيوني «بريكينغ باد» شهرته، دور الزوج الذي تعدى منتصف العمر، باقتدار كبير. يتبدل أداء الممثل الذي اكتشفته هوليوود والسينما المستقلة الأميركية في الآن نفسه، من المحامي الفظ، الى رجل منكسر عاطفياً يحاول اكتشاف ذاته ويشكك في كل قيمه والقرارات المفصلية في حياته، وعندما يشعر بأن هناك ما هو نقي في عالمه، يسرع ليقلب حياته مرة أخرى، وينطلق في مشاهد قوية للغاية وهو يحاول أن يصلح ما فات عليه إصلاحه وقبل فوات الآوان. يجمع «كرانستون» الذي يثبت أن هناك أملاً لممثلين تجاوزوا الخمسين من العمر، بين خامة الممثل الكوميدي وتراجيديا الرجل العادي وينهل منهما في تجسيد هذه الشخصية المركبة.

هنا فلسطين
لم يعزل مهرجان تورونتو أفلامه الأقل شعبية وبرنامجه التسجيلي في صالات سينمائية منفصلة أو بعيدة، بل منحها منصات في أكثر صالات المهرجان اكتظاظاً. فإلى جانب الصالات التي تعرض أفلاماً هوليوودية، كانت صالات أخرى تعرض أفلام البرنامج التسجيلي، والتي تنوعت موضوعاتها هذا العام، وإن غلبت على الكثير منها قراءاتها المتأنية لأحداث وقعت في الماضي. من أفلام هذا العام التسجيلية، فيلم المخرج الفلسطيني المقيم في رام الله مهند اليعقوبي «خارج الإطار: ثورة حتى النصر»، والذي ربما يكون المحاولة التسجيلية الأولى للعودة والتذكير والاحتفاء بالأرشيف الصوري الفلسطيني، والذي سجل على طوال قرن كامل.
يستدعي المخرج صوراً عكست عقوداً من الزمن الفلسطيني المتقلب، انتهت بالاحتلال الإسرائيلي لبيروت في عام 1982، وهو التاريخ الذي ستكون له دلالة مهمة، إذ إنه وعلى أثر ذلك الاحتلال أو بسببه، ضاعت غالبية الأرشيف الصوري الفلسطيني الذي كانت تجمعه منظمة التحرير الفلسطينية. يشتغل المخرج الشاب على المواد الصورية الناجية من التاريخ الفلسطيني العنيف، ويذكر عبر أفلام نادرة شديدة العاطفية في مواضع والقسوة في مواضع أخرى، بقصة الفلسطينيين وما مروا به، كما أنه يختم فيلمه بمشاهد حديثة صورها هو نفسه من مدينة رام الله، ليضيف الى صورة فلسطين الجريحة والمنكسرة، في مسعى لإنقاذها من النسيان والإهمال وحفظها لعمر وجيل مقبلين.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى