«لافي دي بريست» للفرنسية إيمانويل بركوت: عندما يصبح الواقع خيالا

خالد الكطابي

يعتبر فيلم «لافي دي بريست»، أي ابنة بريست، للمخرجة الفرنسية إيمانويل بركوت من الأفلام الفرنسية التي تضعنا بالصــوت والصورة أمام واحدة من القضايا الراهنة التي أرقت المجتمع الفرنسي.
والفيلم يشكل رجع الصدى المضاعف لأنه يجعل المشاهد يطرح سؤالا يتعلق بدور السينما في طرح القضايا الشائكة ومدى نجاحها في إعادة الحكي عبر تحويل قصة واقعية إلى عالم الخيال.
ويعتمد سيناريو الفيلم على كتاب «لوميديتور150 مغ» لمؤلفته إيرين فلاشون، الطبيبة الفرنسية المتخصصة في أمراض الرئة، التي قامت بتأليف الكتاب لكشف الخطر الذي هدد حياة كثير من الفرنسيين.
ويسرد الفيلم قصة للصراع الضاري الذي قادته إيرين فلاشون، التي تعمل طبيبة في مدينة بريست، حيث تحكي اكتشافها المفاجئ للتأثير الجانبي لأحد العقاقير المناهضة للسمنة الذي يؤدي إلى وفاة مستعمليه دون أن يظهر كسبب مباشر للوفاة منذ سنة 1976. ولأن الأمر يتعلق بشركة متعددة الجنسيات كان لا بد من مقاومة عنيفة وإصرار للمضي نحو إيجاد مخرج من ورطة يمكن أن يتهم فيها عدد ممن شككوا في صلاحية العقار بعدم أهليتهم في الميدان الطبي.
لقد قامت مخرجة الفيلم بإظهار ذلك من خلال سباحة الطبيبة في بحرمتلاطم الأمواج في دلالة عميقة على ما ينتظرها من مصاعب عند إثارة ذلك. لقد اعتمدت إيمانويل بركوت، في حكيها، على لقطات مقربة جدا من أماكن الداء وجعلتنا نرى أعضاء الجسم الإنساني في حركيتها، كما جعلت الكاميرا، في لقطة أخرى، تقترب من جسد الضحية المتوفاة لتنقل لنا مباشرة التشريح الطبي وتتجاوزه نحو تقطيع الجسد أطرافا، وهنا نصبح أمام عملية الحجب (رؤية آلة القطع من دون رؤية العظام تتكسر) هذه المناظرالصادمة والمقززة، التي تحرج عين المشاهد وإحساسه، لها ما يبررها من جهة الكشف على خطورة وتأثير العقار داخل جسم الإنسان… ولدق ناقوس الخطر الذي يعلن عن هول الفاجعة.
جسدت الممثلة الدنماركية سيدس بابيت كنودسن، دورالطبيبة الفرنسية إيرين فلاشون، حيث عرفت كيف تنقل مشاعرها وتقدم شخصيتها للناس، حسبما صرحت به الطبيبة نفسها في الندوة الصحافية.
وكان في مؤازرة إيرين في صراعها زملاؤها في المهنة، من بينهم باحث في مختبر طبي حيث ساعدها من باب تجربته. وقام بتشخيصه الممثل الفرنسي المتألق بينوات ماجيميل. وصرحت إيمانويل بركوت بأن فكرة إخراج الفيلم كانت من اقتراح المنتجتين، حيث اقترحتا عليّ أن أتناول موضوع هذا الفيلم اعتمادا على كتاب الطبيبة الذي أثار ضجة كبيرة في فرنسا.
طرح الفيلم قضية حساسة عانت منذ بدايتها حتى نهايتها من الحصار المطبق والرقابة، سواء داخل المؤسسات الطبية وصندوق الضمان الاجتماعي ومن طرف الشركة المنتجة للعقار والمتواطئين معها حتى داخل المختبرات العلمية الجامعية. والفيلم يشكل صرخة في بحر مافيات هدفها الربح المادي بأي ثمن حتى إن كان ذلك حياة الناس ما دامت تتوفر على تأشيرة إجازة العقار من طرف الدولة. كما يشير الفيلم أيضا إلى وجود أشخاص، وإن كانوا أقلية في البداية، يمكن لهم أن يقدموا خدمات رغم عدم قدرتهم على الظهور للعلن بسبب مواقعهم الحساسة.
لقد كانت نصائح إحدى المتخصصات لبطلة الفيلم بالغة الأهمية تنم عن خبرة ومعرفة كبيرة في كيفية الضغط ومواجهة لوبيات الإدارة، عندما نبهتها إلى أنه لا يمكن لقضيتها أن تؤخذ بعين الاعتبار مادامت لم تنشر في أي وسيلة إعلامية. ويتناول الفيلم أيضا الحقل الإعلامي الذي لا يساير مثل هذه القضايا في بدايتها لكنه يصبح سلاحا فعالا عندما يتبناها ليخلق الحدث ويمارس الضغط الذي سيفك الحصار وينتهي بتشكيل رأي عام مؤثر، حيث سيحسم في سحب العقار الطبي ويطالب بالمساءلة القانونية وبتعويضات الضحايا.
والفيلم يقدم كذلك نضال المرأة الفرنسية، ومن خلالها كل النساء، ضد الجشع المالي والتنديد بما تتعرض له الإنسانية من مخاطر يهدد وجودها.
ويعكس الفيلم جرأة الإنتاج في تناول مثل هذه القضايا والمجازفة بالاستثمار في فيلم يحكي، لمدة ساعتين وعشرين دقيقة، قصة واقعية في وقت يصعب على المتفرج مقاومة أحداث الفيلم التي تشفع له قضيته الإنسانية المتناولة في طول مدته الزمنية.
وحسب مؤلفة الكتاب فإلى حدود سنة 2009 بلغ عدد ضحايا العقار حوالي 300 ألف في فرنسا وحدها التي تأخرت كثيرا في سحب ومنع تداول المنتوج الطبي في الوقت الذي انتبهت فيه إسبانيا إلى خطره وأعلنت الحظر على استيراده عام 2003 وحينها قامت الشركة بتضليل الرأي العام الفرنسي معللة ذلك الحظر بأسباب تسويقية فقط.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى