«مطاردة متوحّشين» لتايكا وايتيتي.. رجولة عصيّة

زياد الخزاعي

ما ارتكبه النيوزيلندي ذو الأصول «الماورية» تايكا وايتيتي من كوميديا عائلية في «بوي» (2010) ـ حول هوس يافع بغناء الأميركي مايكل جاكسون وحركاته الراقصة، بديلاً من إقصائه الاجتماعي المعقّد والقدري ـ يتطوّر نحو عوالم عرقية أكثر تداخلاً وتحريضاً في جديده «مطاردة متوحّشين». ذلك أن يافعه ـ وهو مثل الأول ـ تسري في عروقه دماء السكان الأصليين، يتورّط في عناده وجموحه مع عجوز أبيض (أوروبي) يعيش مع زوجة شفوقة تقرّر تبنيه ودعوته للعيش في كوخهما الواقع عند حافات غابات فاتنة، قبل أن يخطفها الموت بشكل مفاجئ.
اعتبر نصّ وايتيتي تلك الأحراش بمثابة ضمير بريّ وكوني مكلفاً بصون منابت إنسانية متداخلة النُطف، وحراسة توازنات عوالمها وكائناتها ودورات طقوسها. وفوق هذا كلّه بيئتها. إن ريكي (جوليان دينسن) وهيك (سام نيل) هما حيوانان من فصيلة بشرية يتشاركان، كل حسب أعرافه ومنطقه، داخل فردوس بكر. معضلتهما المشتركة أن الآخرين لا يدعونهما بسلام. مهّد وايتيتي لهذه الآصرة، حينما يتعرّف الصبي المُغرَم برجال العصابات للمرة الأولى على «والده بالتبني» عبر رأس خنزير بري يحمله رجل كثّ اللحية وهمجيّ الطلّة، سيدخل عالمه بصدود ولا محبّات حتى لحظات المواجهة اللاحقة، حينما يهدّد رباطهما قانون دولة «بيضاء»، متمثل بـ «ضابطة» الرعاية الاجتماعية راشيل (باولا هاوس) التي تصف ريكي بأنه «بيضة فاسدة جداً»، وسعيها الى استصال خطاياه بإعادته الى الإصلاحية وقوانينها المتزمتة. ترى لمَن الغلبة؟ يترك وايتيتي جوابه معلقاً على مدى 101 دقيقة من مناكفات وتهكمات وتحاملات على أُرومات، وتنديد بغَشْم دولة وسطوتها، ودناءات مواطنين مسعورين بنيل مكافأة اعتقالهما عبر تعميم «تهمة لئيمة» مفادها أن العجوز منحرف جنسياً لذا اختطف الفتى، ما يمهّد الى عملية تعقب عصابية يشترك فيها الجميع على منوال شريط البريطاني رادلي سكوت «ثيلما ولويز»(1991).
كومونة خالصة
في حالة «بوي» الفاقد لوالدته وهو صغير، والعائش ضمن كومونة ماورية خالصة. دار رهانه الفردي على عودة أب غائب ينقذه من مستقبل بلا أمل. حينما يطلّ هذا، يكتشف الصبي كائناً خائباً ومدمناً، وعلى قدر كبير من الغفلة والشقاوة. وبدلاً من شمله وأخوته الآخرين بحنوّه ورعايته، يحوم الشاب السفيه (تمثيل المخرج وايتيتي) حول مال مسروق لا يعرف مكان دفنه! أمام هذا النكوص، يستمرئ بوي حلماً يتخيل فيه نفسه قريناً ماورياً لجاكسون الزنجي. فهو مثله من عرق مغبون، لكن الحظ والموهبة وقفا الى جانبه. على منوال جرحه وإنما بصيغة مواجهة أوسع، يجد ريكي نفسه أسير إصلاحيات وعقاب دائم، فاشلاً في «اصطياد» عائلة تتقبّله. فهو مجموعة رزايا لا تفتئ تتعاظم نظراً لرعونته وسخطه. ريكي أكثر حظاً من صنوه بوي، حيث إن النظام العام لن يسمح له بخيانة حظوظه الاجتماعية أو سقوطه في الخطيئة، فيتكفل بتوفير حاضنة له بأي ثمن. ينقلب عالم الصبي حينما يجد نفسه ضمن دائرة جغرافية حدودها بريّة لا نهائية وذات كرم أزلي، اضافة الى عالم عاطفي مشحون بشيم ومكرمات كائنين قد تختلف درجات الرأفة في دواخلهما، لكنهما قطعاً لن يضحيا بعطاياها. ولئن تحصّن بوي، بعد «هروب» الأب الأرعن، بأسرته الصغيرة وقبر أمه ومحيطه القبلي، يحتاج ريكي الى «طبخة سينمائية» مكوّنة من مطاردات تستعير عوالم هوليوود ثمانينيات القرن الماضي، ومعارك مصطنعة بين بشر وكائنات متوحّشة تقلد أسطورة السلسلة الشهيرة «سيد الخواتم» (2001 ـ 2003)، وخصومات بين أبطال أفلام شهيرة مثل «ترمنيتر» (1984)، حيث تعتبر ضابطة الرعاية الاجتماعية نفسها آلة المخرج جيمس كاميرون التي تطارد ريكي/ سارة كونر لتصفيته. يحتاج بطل وايتيتي كل هذه الاستعارات ليتيقن أن عجوزه المخطوف بروعة الطبيعة من حوله وإصراره على وصفها بـ «ذات الجلال»، هو حنان متأخر طالما افتقده، وسعى الى الهروب منه ومحاربته بالصدود، لكنه اليوم ينهزم أمام قوّة اختراقه لكيانه الفتيّ، وينصاع لكسره تمرّداته وضراواته!
انقلابات عواطف
شريط وايتيتي (مواليد العام 1975)، المقتبس عن رواية لباري كرامب، منسّق على عشرة فصول مهمتها ـ حسب عناوينها ـ تسهيل ترتيب تاريخ البطل وانقلابات عواطفه لمشاهد عالمي، افترض صاحب «ما الذي نفعله في الظلال» (2014) حول مصاصي دماء حداثيين، أنه يحتاج إلى شروحات كي يستسيغ روح النكتة النيوزيلندية التي نعتها بـ «الدنيوية» بسبب غرقها في الملل! وهو رهان سينمائي فريد، نشهد فيه شجاعة وايتيتي وموهبته ودأبه في العثور على طرافات صافية عبر شخصيات مألوفة ذات بلاهة صادمة ومباغتة، وأحداث وأشياء مدقعة بالسأم. ففي قلب فيلم «مطاردة متوحشيْن» يلتقي ريكي، وهو في طريقه الغابي بحثاً عن فريق طبي لعلاج عجوزه الذي كسر قدَمَه، بصبية ماورية على صهوة حصان، تدعوه إلى بيت والدها المهووس بكسله، ليكتشف أن الحماقة هي أم مخفيّة في كوخ خشبي، والصبية كما لو أنها جنية طارئة. يتخيّلها ريكي، وهو شاعر يكتب قصائد «الهايكو»، على غرار فتيات إعلانات فطائر الشوكولا اللواتي يشاهدهنّ على شاشة تلفزيون بين أخبار اختطافه على يد «العم» هيك! أمران يفجّرهما المخرج وايتيتي هنا. الأول أن ريكي يكتشف الحب وسط محيطه الأصلي، حيث العواطف جياشة والتزمت معدوم. والثاني، تفطّنه الى ان رجولته العصيّة لا تُختبر بعدد مرات فراره او كمية المآثم التي يجترمها، وإنما بقدرته ـ كما هو الحال مع «بوي» ـ على الإيمان بالشراكة العائلية، لكونها دافعاً حياتياً وديناميكياً يؤمن له الألفة والصون والانتساب. ما يفسر اختيار صاحب «عُقَاب ضد سمك قرش» (2007) المشهد الختامي لريكي زائراً عجوزه المتشكك في كل شيء والمتنمّر من الجميع، عارضاً عليه مرافقته والعيش معاً كعائلة جديدة داخل «جلال» الطبيعة، وقريباً من كوخ الحبيبة، معلناً انتصاره الى نخوة صوّبت وجهتها عن حق نحو قلبَيْن مستوحدَيْن.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى