كمال ديب يكتب تاريخاً مجتزأً للثقافة اللبنانية

خالد غزال

يقع كمال ديب في إشكالية تسمية كتابه الجديد «تاريخ لبنان الثقافي» (المكتبة الشرقية) لجهة مضمونه الذي يحدد المرحلة الزمنية لتاريخ لبنان الثقافي ابتداء من عصر النهضة حتى اليوم، ما يجعله مبتوراً وقاصراً عن الإلمام بكل الميادين الثقافية والفكرية التي تجلت في لبنان خلال هذه الحقبة الطويلة، فيظلم هكذا نفسه ويظلم أسماء مهمة وكبيرة في الثقافة لم يأت على ذكرها، بينما احتلت هذه الأسماء وتحتل مواقع في ميدان الثقافة.
وعلى رغم ذلك، فإن كل محاولة في هذا المجال تستحق التعاطي معها بإيجابية لكونها تضع بين يدي القارئ مزيداً من المعلومات والتقييم لشخصيات في هذا المجال. على امتداد خمسة عشر فصلاً، سعى كمال ديب إلى التطرق لعناوين كبيرة تحتاج إلى موسوعة لإعطائها حقها، فبدأ بالتعريف بالثقافة والمثقف، وبعدها تطرق إلى لمحة تاريخية حول لبنان وموقعه عشية النهضة، من نهايات القرن التاسع عشر إلى مطالع القرن العشرين. ثم يدخل في صلب القضايا مبتدئاً بتلخيص مضمون النهضة كما يراها والتعبيرات التي تمظهرت فيها، لينتقل بعدها إلى المواضيع التي اختارها لتشكل مضمون الكتاب، فعرج على الآداب والفولكلور والدبكة والمطبخ والشعر والمسرح والسينما، وصولاً إلى الفكر، وانتهاء بطرح مسألة انتكاسة النهضة.
يتناول ديب واقع الفكر اللبناني في القرن العشرين، لا سيما قبل الحرب الأهلية، وطبيعة النتاج الفكري الذي صدر خلالها. يقر بوجود تيارات أيديولوجية أغنت هذه الثقافة، توزعت بين عودة إلى ما قبل التاريخ لإعادة تعيين أصل لبنان وتاريخه، خصوصاً ما عرف بالنزعة القومية اللبنانية التي نحت إلى استعادة التراث الفينيقي في وصفه يشكل أساس لبنان. لم تكن هذه النظرة بعيدة من نظريات أيديولوجية قومية عربية أو قومية سورية أو ماركسية، سعت كل واحدة منها إلى تكوين تاريخها الخاص للبنان من منظور فكري وأيديولوجي محدد. ولا شك في أن سنوات ما قبل الاستقلال حتى عشية الحرب الأهلية، شكلت المرحلة الذهبية من تاريخ لبنان الثقافي في جميع الميادين، ويشهد على ذلك النقاش العربي حول أي عاصمة توصف بكونها عاصمة للثقافة العربية، هل هي بيروت أم القاهرة، وهو السجال الذي دار بين المفكرين المصريين زكي نجيب محمود وطه حسين.
يعطي الكاتب موقعاً في دراسته للمفكر القومي اللبناني كمال الحاج، الذي بلور أكثر من أي مفكر آخر مقولة «الفكرة اللبنانية»، وقد اعتبر الحاج أن الأسلوب الذي تعبر به أمة عن نفسها هو المظهر الأهم من مظاهر القومية، وبأن أسلوب التعبير هذا يتطلب أن تكون الأمة حقيقة مجسدة في فضاء جغرافي وحيز زمني محدد، وهو ما رأى كمال الحاج أنه تحقق في القومية اللبنانية، فيما عجزت عنه القوميتان السورية والعربية. ويشير ديب إلى أن الحاج «تحدى الأفكار القومية السورية والعربية بتساؤله: إذا كان هدف القوميين السوريين والقوميين العرب إزالة مفاعيل الاستعمار الأوروبي الذي قسم المنطقة العربية إلى دويلات، فلماذا لم يصبحوا القوة الأساسية في مجتمعات لبنان والمشرق؟ ولماذا لم يصل القوميون السوريون إلى الحكم؟».
على رغم أن كتاب ديب هو حول تاريخ لبنان الثقافي، والذي يفترض فيه أن يلاحق هذه الثقافة من خلال صانعيها، إلا أنه «يشرد» في كتابه إلى معالجات طاولت مفكرين غير لبنانيين. في هذا المجال، تطرق ديب إلى السجال الفكري الذي دار بين المفكرين الراحلين جورج طرابيشي السوري الأصل، ومحمد عابد الجابري المغربي الأصل، وهو نقاش معروف من خلال تراث غني تركه كلا الرجلين. دار هذا النقاش حول التراثين العربي والإسلامي، وكانت لكل واحد منهما وجهة نظره المستندة إلى حيثيات وأسانيد فكرية أغنت الثقافة العربية النقدية والتنويرية من دون شك. وتطرق ديب أيضاً إلى المفكر الجزائري محمد أركون والمغربي عبد الله العروي وأظهر ما قدماه من مساهمات فكرية تشكل ركيزة لفكر التنوير في العالم العربي من خلال تركيز اركون على نقد العقل الإسلامي، وتركيز العروي على القراءة التاريخانية للتراث. ويكمل ديب في رصده المظاهر الثقافية من خلال تناوله كلاً من أدونيس السوري وفرج فوده ونصر حامد أبوزيد المصريين، إضافة إلى إدوارد سعيد الفلسطيني الأنغلوفوني.
يسجل هنا على كمال ديب أنه أراد أن يضيء على فكر تنويري نقدي للتراث العربي والإسلامي، فلم يجد أمامه سوى مفكرين سوريين ومغاربة ومصريين. على أهمية ما قدمه هؤلاء في ميدان الثقافة والتنوير العربي، إلا أن الساحة اللبنانية لم تخل من مفكرين تناولوا المواضيع إياها وكانت لهم مساهمات لا تزال حية وراهنة. نذكر على سبيل المثل المفكر الشيوعي حسين مروة الذي استشهد على يد قوى ظلامية في العام 1987، والذي لا تزال كتاباته مصدراً لدراسة التراث، خصوصاً منها كتابه «النزعات المادية في الفلسفة الإسلامية». وتتوجب الإشارة إلى الشيخ عبد الله العلايلي الذي كسر محرمات عبر قراءته التجديدية المستندة إلى القراءة التاريخية للنصوص المقدسة وضرورة تجاوز ما تقادم عليه الزمن ولم يعد صالحاً لعصرنا، وهي قراءات رجل دين أثارت عليه موجات من التكفير من المؤسسة الدينية في لبنان خصوصاً.
وبعدما جال كمال ديب مع مفكرين ومثقفين غير لبنانيين، انتقل ليقرأ حال الثقافة اللبنانية خلال فترة الحرب الأهلية وبعدها، وليرى في هذه المرحلة انتقال جموع مثقفين من مواقع نضالية إلى مواقع معاكسة، كما يتطرق إلى قراءات سريعة نقدية للذات مارسها مثقفون كثر. صحيح أن فترة الحرب الأهلية، بما سبقها وخلالها، انتجت ثقافة كانت على صلة بطبيعة المرحلة من النضال القومي العربي ودعم القضية الفلسطينية والدعوة إلى تجديد المشروع القومي العربي الذي عرف أزمته بعد هزيمة حزيران 1967. وعلى رغم أن الكاتب يولي مثل هذه المراجعات أهمية، إلا أنه لا يهتم بالتراث الذي أنتجه مثقفون تناولوا تاريخ لبنان والمنطقة العربية، ولا بالدراسات التاريخية والسوسيولوجية التي لا تزال تشكل مرجعاً، ونذكر منها نتاج ناصيف نصّار وشارل مالك وأحمد بيضون ووضاح شرارة ومسعود ضاهر وعلي حرب ومهدي عامل وسمير خلف وغيرهم ممن أغنوا المكتبة العربية واللبنانية.
وفي مقابل هذا النتاج الفكري الذي قد يكون اتسم بطابع فكري معين، لا ينبغي غض النظر عما أنتجه الفكر اليميني بمنطق ذلك الزمان، سواء من خلال دراسات الكسليك أو كتابات مثقفي الأحزاب، من الكتائب والكتلة الوطنية وغيرها. كما لا ينبغي نسيان ما أنتجته الليبرالية اللبنانية ومثقفوها في تلك المرحلة، خصوصاً عشية الحرب الأهلية. أما الفصول التي تناولت الأدب والفن في لبنان فبدت مليئة بالثغرات والنواقص وتحتاج مقالاً نقدياً على حدة.
لا نظلم كتاب كمال ديب حول تاريخ لبنان الثقافي بالقول إنه تناول بعض الشذرات في هذا التاريخ. فالكتاب كأنه كُتب على عجل، والأساسي فيه، خصوصاً في الميدان الفكري، هو ما تطرق فيه إلى مثقفين غير لبنانيين. أما القراءة النقدية، فلم تدخل فعلاً في لــب الثقافة المنتجة بمقدار ما أتت كأخـــبار صحافية أخذها الكاتب على علاتها من دون التـــدقيق في مضمونها. على رغم الهنات الكثــــيرة التي شابت الكتاب، إلا أن أي محاولة لتأريخ الثقافة تبقى إيجابية، لكونها لا بد لها من أن تساهم في الإضاءة على نقاط معينة.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى