كتّاب مغاربة يستعيدون أحمد المجاطي شاعراً

محمد علي شمس الدين

في الديوان الوحيد الذي تركه الشاعر المغربي أحمد المجاطي (1936)، وعنوانه «الفروسية»، تأخذنا فيه الحركة اللغوية والشعورية بين الماضي والحاضر، وهي حركة بحرية من ناحيتين. الأولى كونها تمزج في أمواجها الموزونة إيقاعات الماضي والحاضر وتجمع بينهما في ما يمور في القصائد السبع عشرة للديوان من موسيقى الأوزان، والثانية أنها تستدعي رموزاً وأسماء من التاريخ العربي والإسلامي إلى ساحة القصيدة استدعاءً غير تماثلي وغير متصالح، فيحضر أشخاص التراث بين يديه حضوراً شعرياً (المرجفون، أصحاب العمائم) وكذلك المدن المجروحة (الدار البيضاء، سبتة، دار لقمان، غرناطة) ما يجعل الذاكرة في الديوان أشبه ما تكون «جهداً لفتح الزمن انطلاقاً من تدخلات الحاضر» كما يقول ميرلو بونتي في «ظواهر الإدراك» أو ما يشبه «إيصال الكينونات إلى ضياء الأبدية» بتعبير داريوش شايغان في «الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية». والحال هي أن الذاكرة تلعب هنا دور البحر في المزج بين الأمواج والأزمنة أكثر مما تلعب دور المرآة العاكسة للأشياء والوقائع. يظهر الشعر تجاه ذلك، على أنه المحول الأكبر لكل ما يداخله من تواريخ وأحداث وأسماء أكثر مما هو الناقل لها والراوي لمجرياتها. وقد أسهب يوسف ناوري في تحليل ذلك تحليلاً معرفياً في بحثه في شعر المجاطي المتضمن في كتاب «شاعر في السماء» تأليف جماعة من الأدباء والباحثين (المكتبة الوطنية للمملكة المغربية 2016- تنسيق أحمد المديني).
عنوان ديوان المجاطي «الفروسية» (صادر في طبعته الأولى عام 1987- منشورات المجلس القومي للثقافة العربية) يحيل على كلمة طقوسية قديمة لا تزال تمتد عاداتها واحتفالاتها في المغرب العربي بالذات حتى اليوم. وكان من أقدم من كتبوا فيها ابن القيم الجوزية في القرن الثالث عشر للميلاد (السابع للهجرة) كتب «كتاب الفروسية المحمدية» وحشد فيه الكثير من فنون اللغة والأدب والحديث والتاريخ والرياضة في نسق بديع. والفروسية ما زالت حتى اليوم في المغرب العربي فن البربر والعرب الأول يمارسونها على سفوح الأطلس الوسطى وعلى صورة عروض وهجمات على ظهر الخيل، تصحبها الكمنجة والأهازيج الشعبية.
في ما يخصّ اللغة والذاكرة في الديوان، لا يمكن أن ننسى أن المجاطي هو شاعر مغربي، ينتمي الى ستينات القرن العشرين وسبعيناته، والى زمن كان الصراع يدور على سن اللغة وسن التراث، وذلك بعدما خرج المغرب العربي من ليل الاستعمار الفرنسي الطويل.

المقارنة المفقودة
ما لاحظته على الدراسات والشهادات الثلاث والعشرين المجموعة في كتاب «شاعر في السماء» وهي لدارسين وشعراء وأكاديميين مغاربة، أنها لم تشر في أي منها إلى مقارنة أراها ضرورية بين أحمد المجاطي (المغربي) وخليل حاوي (اللبناني).
كتب خليل حاوي (1919- 1982) كواحد من مؤسسي الحداثة الشعرية العربية، من خلال أبرز دواوينه «نهر الرماد» (1957) و «الناي والريح» (1961) و «بيادر الجوع» (1962) الانبعاث الكاذب. وإذا كان متردداً بين الشك في نهر الرماد واليقين في الناي والريح، فإنه انتهى إلى ارتكاس تام في قصيدته الطويلة «اليعازر». كان يتصف بالعنف الشعوري وتعيقه رؤيا سوداء. وهو صاحب الشخصية العصابية كان يحمل رؤية حضارية فلسفية، ينظر إلى عظمة الأمة وروحها البدئية القائمة على فكرة أن الشاعر هو المخلص، كالخضر أو القديس جاورجيوس الذي يصرع التنين ويخلص المدينة… لكنه انتهى إلى الهاوية وأصابته الإحباطات والهزائم العربية بالعدوى في ديوانيه الأخيرين قبل انتحاره العام 1982 وهما: «الرعد الجريح» و «من جحيم الكوميديا» حتى انتهى حاوي إلى نص محروق: «أمسي احتراق واحتراق غدي/ يحترق التراب/ يحترق الحجر/ يحترق السحاب…».
ثمة إمكان للقول إن ديوان «الفروسية» للمجاطي مبني على قاعدتين، واحدة قائمة في «الفروسية» وواحدة منهارة في الخيبة، أو الفروسية المعكوسة. وإن شعره هو كما قال العياش أبو الشتا: هبة فسقوط فصمت، فروسية فكبوة فموت، نار فثلج فعنكبوت» (ص 114).
ومثل خليل حاوي، كان المجاطي يأمل بانبعاث عربي، لكنه كما يقول في قصيدة «عودة المرجفين»: «أولئك أصحاب الفتوح الكذابة: أنهم عادوا بلا مجد، وبنادقهم مبللة بالدموع. أأقول جئت أمد جسراً من جبال الريف/ جئت بخيل طارق؟ وعقدت ألوية الرفاق وراء عتبة أم أتيت أعلم الفرسان/ كيف تغص بالدمع البنادق؟».
بل لعل المفردة، والصيغة، والايقاع، وحتى الصورة لدى المجاطي قرينة لــحاوي (الــسابق عليه بالطــبع) فأنت حين تقرأ للمجاطي مثلاً قوله في قصيدة «كبوة الريح»: «على المحيط يستريح الثلج والســكوت/ تسمر الموج على الرمال/ والريــح زورق بلا رجال/ وبعض مجذاف وعنكبوت/ من يشعل الفرحة في مدامعي/ من يوقظ العملاق من يموت؟»…
بينما تقرأ كتاب «شاعر في السماء» تمرّ على أسماء معروفة في الشعر والنقد المغاربيين تناولوا تجربة المجاطي بالنظر والتحليل تبعاً لمناهج متعددة ولقراءات مختلفة، وتجد نفسك منساقاً إلى النقد ونقد النقد في وقت واحد. فماذا يعني مثلاً أن تصدر طبعة جديدة لديوان «الفروسية» (الديوان اليتيم للشاعر) عام 2001 تضم قصائد إضافية؟ وما هي هذه القصائد الإضافية وكيف ولماذا أضيفت مع ما كان يعرف به الشاعر من تشدد وريبة تجاه ما اختاره من قصائد لتنشر في ديوان واحد في العام 1987 بعدما كان كتب في مجلات مغربية عديدة (آفاق وأقلام وأنفاس) عدداً كبيراً من القصائد، ولم يصدر في حياته البالغة تسعة وخمسين عاماً سوى هذا الديوان؟
إن العمل الذي قام به الناقد نجيب العوفي باختياره بعض ما أهمله الشاعر، إضافة الى الطبعة الجديدة، هو عمل مسيء للشاعر من حيث أراد العوفي خدمته. وهو ما أشار إليه معظم الدارسين لتجربة المجاطي في الكتاب التكريمي المشار إليه. فلو تجاوزنا هذه المسألة المهمة إلى متن الدراسات والشهادات المكتوبة لوجدنا أنفسنا أمام أساليب كثيرة لباحثين أكاديميين ونقاد وقراء وشعراء متباينين، تأطروا في الكتاب حول عنوان واحد، بينما ديوان «الفروسية» والشاعر المجاطي يظهران كعينة اختبارية لمعالجين مغاربة متعددين متباينين يتفقون ويختلفون في الرؤية والمنهج والأسلوب والقيمة.
فأنت مثلاً تجد نقداً من محمد بنيس للعوفي (لناحية كنية المجاطي الواردة في كتابيه النقديين) وهي المعداوي (لناحية إضافة قصائد للمجموعة). وتجد حدباً أبوياً من أحمد المديني على الكتاب، لكنك تفاجأ بأن شاعراً سابقاً بقليل على المجاطي، ومعايشاً له، هو محمد السرغيني، يشير إلى أنه لم يعجبه منه سوى سطر شعري واحد هو «تسعفني الخمر ولا تسعفني العبارة». وإن إدريس نقوري في عرضه لأطروحة عزيز الحسين حول خصوصية النص الشعري الطليعي (المجاطي نموذجاً) يغوص في تشريح عروضي مهم يتبين من خلاله التنويعات الوزنية الحديثة التي استعملها المجاطي من تنويع وتدوير وتضمين وعلل ومزج للبحور في القصيدة الواحدة من رجز وسريع وخفيف. أما خالد بلقاسم فيشير إلى أن الوعي النقدي للمجاطي كان أقل من جذوته الشعرية. ويتبع إدريس النقوري في تحليل قصائد الديوان المنهج الانتروبولوجي ومفاهيم النماذج العليا البدائية وإحصاء المفردات وآليات دلالاتها، ويستطرد في ذلك حتى ليكاد يفلت منه كون الأصل هو النص الشعري.
أخيراً، أنا شخصياً عرفت أحمد المجاطي باكراً وقبل أن ينشر ديوانه «الفروسية». كان ذلك في التاسع من أيلول (سبتمبر) 1979 خلال أمسية شعرية مشتركة دعانا إليها اتحاد الكتاب المغاربة، محمود درويش وأنا، في قاعة «سميا» في الرباط وقدمها رئيس الاتحاد في حينها محمد برادة. حضر أحمد المجاطي الأمسية وما لبث أن انسحب بصمت من دون تعليق. لكنني فوجئت به يأتي في اليــوم التالي ويدعوني بمفردي إلى عشاء في منزله. كان المجاطي على ما أذكر كائناً متوارياً، فيه غموض ولم يظهر لي حاداً كما يصفه عارفوه بل كان صامتاً. وما سمعته من شعر علق في ذهني منه قوله: «يا سارق الشعلة إن الصخب في السكون».
وذلك قبل أن أقرأ ديوانه الفروسية الذي ضاع مني فيما بعد.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى