‘المعبث’ .. كوابيس حفرت عبر المتخيل والواقعي

قاسم ماضي

وأذان الفجر هو موعد فراقنا، وما بينهما فلا حاجة بنا للزمن، تلك هي الثيمة التي قام عليها الخطاب السردي للمجموعة القصصية “المعبث” للقاص علي الحديثي.

يُرغمك منذ ُالمفردة الأولى بالتمسك بمجموعته القصصية وتصبح لصيق كرسي القراءة الذي لم يعد يقترب منه الكثير من الناس في هذه الأيام، والذي يمسك هذه المجموعة ويعيش في أجوائها كأنه في ولادة جديدة في عالمنا المضطرب. والحديثي أدخلك في صومعته التي رسمها عبر حروفه الجميلة “التفت إلى مكتبته التي تقف على يمينه، الكتب حبال تجره إليها”. (ص97).

وكأنك في معبد، وأي معبد! معبد كبير مزدحم بهذا السرد الخصب، وفيه من التجليات التي تخضع لها والتي لا مفر منها، والذي يبحث في عالم الكتابة والقراءة، يجد نفسه محاصراً بثقلِ الإفلاس الذي أثقل نفوسنا بوابل الهموم اليومية وخاصة المادية منها، ونحن نعيش في دولة رأسمالية تثقل الرأس بالطلبات، تبحث عن العامل وأدواته، كي ينتج إلى الآخر شيئا ما في عالم المكننة حتى يربح المالك المسيطر.

“حتى خيل له أن الأزرار تنطلق منها كخيوط العنكبوت تلتف حوله” (ص97).

ما السرً الذي أدخلنا في أتون عالمنا الكتابي المفلس منذُ طفولتنا، والذي لا جدوى منه في هذه الأيام التي تحاصرك من كل مكان، وأنت تعيش في هذه المدن الكبيرة، مدن لا تنام، هجرنا تلك المدن واكتفينا بعزلتنا المعرفية، ومنها الكتاب الذي يقع بين أيدينا، ومع هذا نتمسك في كل جديد ينفذ إلى قلوبنا وعقولنا لأننا تربينا على هذا النسق المهلك.

“بعد أن أنفقت بعض أيامي في سياحة قصصية ممتعة”.

والذي يقع بين يديه “المعبث” وهي مجموعة قصصية قصيرة، للقاص المبدع علي الحديثي، وهي من القطع المتوسط، وتقع في 104 صفحات، عن دار عدنان للنشر، ودار ميزوبوتاميا للنشر، يتمسك بها، ولم يستطع الإفلات من عوالم هذا السرد الجميل، عالم غريب، فاتن، بمتناقضات دنيا الناس، ولهذا تمسكت بهذه الحكايات القصيرة التي أنتجها هذا العقل الرائع، تشبثت بمفرادته الهائجة والرافضة لهذا الواقع المزري، عبر يوميات نحتاجها في تنظيم وعينا الذي اشتبكت عليه المصائب، وعدم مغادرة هذا الواقع الذي عاشه الكاتب سواء كان واقعيا ًأو متخيلاً، لما هو موجود من حكايات وأسرار في حياته، أكدها عبر “الحكي” وجعل منها نسيجاً يرسم من خلاله أمامنا خارطة باللون الأزرق لمتعة حكاياته المتنوعة التي سحبها علينا وأدخلها في عقولنا وقلوبنا.

“لم أكن مجنونا ً كما تظنون” (ص 58).

من يقرأ هذه المجموعة القصصية بتريث وروية، يجد نفسه بين محبيه وأهله وكأنه يغوص في أعماقهم. “في ساعة خرجت عن نطاق الزمن .. لم تحسب بالدقائق والثواني وإنما بالكلمات والحروف”، وهموم القاص هي همومنا من المحيط إلى الخليج عبر رسمه تلك الصور بطريقة فنية مختلفة عن الدارج في المتن القصصي المتعارف عليه اليوم.

“وسكائر تحرق أوراق الزمن تنتظر بلا شعور منا أن تحول دفتر أعمارنا إلى رماد تعبث به نسائم الليل” (ص 98).

وغير المألوف من حيث البانوراما المعايشة لواقعنا المزري، وأنت تتجول في هذا الكًم الهائل من فلسفة الحياة الخاوية والمتعبة، ومن خلال الأمكنة والأزمنة غير المحددة التي لا تفارقه عبر نسيج شريطي وبفرشاة فنية جميلة، والتي ظلت في ذاكرته المعطوبة بضجيج الحاضر والماضي.

“لا بدً من رسم الماضي .. الأساس الذي يقوم عليه المستقبل” (ص76).

الحديثي يضعنا في كوابيس حفرت مخيلته عبر المتخيل والواقعي، تخلص من البعض منها، والبعض الآخر ظل يلازمه طوال سنين عمره، متعته كما يسرد “الحكي” لنا هو القلم الذي التف على عقله وقلبه منذُ وطأت قدماه أرض المعمورة.

“ولكن للأسف قلمي يشبه الفلاسفة الذين يجلسون الساعات والليالي ليحللوا، ويؤولوا، ويفسروا ما يدور في العالم” (ص9).

يقول عنه الكاتب عقيل هاشم الزبيدي يقصد بالعنوان “ثريا النص” الذي يحدد هوية المجموعة القصصية “المعبث” ويعني هذا أن العنوان هو أول ملفوظ يواجه القارئ بعلامته اللغوية، ونجد في هذا العنوان أنه يتخذ دلالة حرفية تتخذ صيغاً بلاغية إيحائية كالترميز في نبرة الحزن، والسأم، والعبث، الدالة على ثنائية الوجود والعدم.

“إن أبني سياجاً من كلماتي أتوارى خلفه” (ص22).

والمتأمل لهذه القصص القصيرة والتي يجد فيها هذا القدر من الغضب المكتوم والمعلن وهو يشاركنا في كل مساعينا التي ظلت عالقة في أذهاننا، وكأنه يقول “الشر في العالم أصيل باق، والخير طارئ نادر الانتظار “صور وتعليقات ومواضيع كسنواتنا لا رابط بينها” (ص98).

كل هذه السخرية التي يطلقها الحديثي وعبر لغة سردية وظف من خلالها المكان والزمان وجعل جميع أدواته المعرفية والفلسفية تصب في وحدة الحدث، يقول عنه القاص حسن النجار يبدو جلياً من مجموعة القاص علي الحديثي “المعبث” حيث نشاهد هناك قصدية واضحة الوضوح على استبيان خصائص مهمة السرد بلغة كانت قادرة على رسم القناعة في استمرار النسق للسرد النصي تحت علاقة المشترك بين الخارج الواقعي والداخل الإفتراضي على أثير الحدث الذي اضاء المنطق في “المعبث”.

“أنا الذي أصلح البشرية .. أنا الذي … أنا الذي” (ص 79).

وهذه القصص المعنونة “المعبث”، ذات ليلة، جوهر الصحراء، المشهد الأخير، المجهولة، دخان الكلمات، هنا نتبين ومن خلالها دور القاص الحديثي في معالجة الكثير من القضايا وهو يظهر لنا كما من المخدوعين يكرهون من يفتح عيونهم وأذانهم قهرا، فهو الرافض لكل القساوات المزمنة التي توقف عجلة الحياة بلغة شفافة وفيها من الترميز الكثير.

“لم نكن نسمح للساعة أن تعبث بنا، هناك كل القرارات تختلف هنا نحن من يمسك بزمام الزمن”.

(ميدل ايست اونلاين)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى