سامح قاسم يميل إلى «سعادة» كافكاوية

يسري عبد الله

ليس ثمة شيء أقسى على الروح من افتقادها الدهشة، تلك التي يجعلها الكاتب المصري سامح قاسم سراً متجدداً لمجابهة القبح في نصه «ميل إلى السعادة» (روافد – القاهرة). تبدو الكتابة هنا ضرباً من ضروب المغامرة والإدهاش، ومن تنويعاتها تأتي نصوص «ميل إلى السعادة» مشغولة بما هو فني وإنساني، تتسرب إلى قارئها عبر مداخل إنسانية محضة تصنع متعة فنية تخرج من دائرة التصنيف النوعي، والتجنيس الأدبي المألوف.
عبر أكثر من خمسين مقطعاً سردياً، تتواتر حكايات الكاتب لقارئه عن كتّاب ورسامين وموسيقيين ومسرحيين ومفكرين وفلاسفة، فيقدمهم الكاتب بوصفهم باعثين أصلاء على تلك السعادة المدهشة. يمنح الكاتب نصوصه عناوين رئيسة، تحمل إحالة على الموضوعة المركزية في الفصل/ المقطع، مثلما نرى في «الحب لا بشرط شيء»، والذي يشير فيه إلى موضوعة الحب (الواحد عند كل الموجودات)، بدءاً من التصور الصوفي عند شمس الدين التبريزي إلى التصور الراهن المتصل بقيم التسامح والإنسانية عند الكاتب الفرنسي إريك شميت في نصه الشهير «موسيو إبراهيم وزهور القرآن». يجدل في عنوان له (الدراويش) بين مفردة دارجة قريبة من الوجدان الجمعي، لها حضور بارز في الثقافة الشعبية مثل لفظة «الدراويش»، ويحيل من خلالها على الشاعر الفذ محمود درويش والموسيقار المجدد سيد درويش. ويختار أحياناً عنواناً يشير إلى التيمة المركزية في المقطع، كما في «الجلبة الكامنة في الصمت»، الذي يُحيل على عبقرية بيتهوفن، الموسيقار الأصمّ.
قد يشير أيضاً إلى شخصية مركزية أو يُفصّل عنواناً على نحو استعاري مثل «وقائع موت معلن تذهب الحل لتبقى الكوليرا» (إشارة الى ماركيز)، أو في «رسائل إلى ميلينا»، الحبيبة التي ظل كافكا يتبادل معها الرسائل طوال ثلاث سنوات تقريباً، وطوراً يحيل على صموئيل بيكيت ومسرحيته الشهيرة «في انتظار غودو»، في نصّ «لن ننتظر غودو». تأتي الشخصية موضع الحكي ومركزه على نحو مباشر في العنوان، مثلما نرى في «كافكا على الشاطئ» مثلاً، أو في الفصل الأخير «يوسا يجيد الأحلام بمهارة».
تأخذ بنية العناوين أيضاً طابعاً أسلوبياً مميزاً، بحيث يبنى بعضها على الإسناد على الاسم «المبتدأ»، ثم يأتي المسند عبارة عن جملة فعلية تتم المعنى، وهذا المنحى في الأداء اللغوي يظهر مثلاً في البدء وفي الختام: «الأسى يقودك إلى باولا/ يوسا يجيد الأحلام بمهارة».

محاولات
يبدأ المؤلف كتابه بافتتاحية غير معنونة، تحوي داخلها سؤالاً مستمراً، ربما تصبح إجابته الممكنة لدى المتلقي الذي يدرك بعد قليل أن النص الذي يكمل فراغاته ويحقق معناه الكلي ليس سوى محاولة فنية وفكرية لمجابهة القبح والتعاسة.
يمثل كافكا بثقله الفني وظلال نصوصه السوداوية والعبثية متناً مركزياً داخل الكتاب، وتبدو الحياة ابنة للعدم أحياناً، مثلما تبدو ابنة للرفض والمقاومة أحياناً أخرى كما يظهر حال الكتابة عن بيبتهوفن وماركيز ومحمود درويش وغيرهم. ويتواتر حضور كافكا عبر أكثر من فصل سردي: «الأسى يقودك إلى باولا/ رسائل إلى ميلينا/ كافكا على الشاطيء» وغيرها.
يتميز الكتاب بتنويعات مختلفة لكتابة بجغرافية إبداعية ممتدة، فتتضاءل فكرة الهامش، ويتجاور الكل، لنجد حضوراً حيوياً لشمس الدين التبريزي، وإريك شميت، وبيتهوفن، وكافكا، وفرجينيا وولف، وماركيز، ويوسا، ومارسيل بروست، ومحمد الماغوط، ومحمود درويش، وعبدالحكيم قاسم، وغيرهم.
يعتمد «ميل إلى السعادة» تقنياً على آلية الحكاية داخل الحكاية وتضفيرها في المتن السردي، فتُبنى الأحداث على وقائع حقيقية، تتكئ ايضاً على جملة من الخلاصات الحياتية لمبدعين معروفين، قبل الخروج منها إلى حيز الابتكار (النص الجديد). وربما يكون هذا هو مصدر جمالية النص وتميزه.
يمكن الإشارة في هذا السياق إلى «الجلبة الكامنة في الصمت»، وهو فصل عن بيتهوفن، الذي يتأخر حضوره على نحو مباشر صفحة كاملة فتتيح للكاتب حرية الحراك في التعبير الجمالي عن الشخصية الغائبة والمحركة للكتابة في آن: « ليس ثمة سبب وجيه، لتصاب أيها الألماني العنيف بجنون الاضطهاد سوى إجبار والدك لك على المثول أمام أصابع البيانو العتيق وأنت في نوبة من نوبات بكائك المحموم».(ص 10).

هوامش
ينهض الكتاب أيضاً على فكرة الإحالة، التي تعد أساساً بني عليه النص، والإحالات هنا إما على أعمال أدبية أو على كتاب وفنانين، وترتبط بفكرة الإحالة التي تفتح أفق النص على مدارات تأويلية متعددة، وتساهم في تعميق سلطة المعرفي، فكرة الهوامش التي تتعدد بتعدد الإحالات، وتعد الهوامش هنا جزءاً من الرؤية الكلية للنص. كل مقطع يحوي هوامش تفصح عن جوهر الإحالات ومرادها، في عمل إبداعي يتوجه بالأساس إلى المثقف العام، وبما يعكس وعياً بفكرة الرسالة الأدبية وسياقاتها وظروف تلقيها.
ثمة إشكاليتان أساسيتان في الكتاب، الأولى تتعلق بكثرة الإحالات داخل المتن السردي، وبما يعوق عملية التواصل أحياناً ويشتت انتباه القارئ، والأمر الثاني يتمثل في النزوع المقالي الصرف في بعض المقاطع، وبخاصة في فصلي: «وقائع موت معلن تذهب الحب لتبقى الكوليرا»، و«وليكن هذا الفصح قيامة».
يسعى الكاتب في «ميل إلى السعادة» إلى الحفاظ على لغة جمالية تتسم بما يسمى بالانحراف عن المسار التقليدي المألوف للغة؛ ولذا نجد مقاطع عدة تتسم بهذا النزوع الشعري، وبعضها أقرب إلى روح قصيدة النثر في تجلٍّ من تجلياتها. في «رسائل إلى ميلينا»: «كافكا. الآن نعرف الخوف الذي عرفته. فهو يمنعنا من الابتسام، من الكلام، من الكتابة، وأنت قلت لي ذات ليلة: أن تكتب، يعني أن تهجر معسكر القتلة»». ( ص 97).
يبدو «ميل إلى السعادة» مشغولاً بما هو إنساني وجمالي، يسعى كاتبه صوب طرح تصوراته عن العالم عبر التماس مع المنجز الثقافي والإبداعي في تنوعه الخلاق، واستعادة رموزه، وتحولاته، وفق كتابة شفيفة غالباً، ومن خلال جملة من التقنيات الكاشفة عن نص ينمو خارج العادي والمألوف

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى