منير الشعراني في باريس… لا إبداع حيث لا حرية

عهد كلاس

لا يمكن أن تمر لوحة الخطاط والتشكيلي السوري منير الشعراني مرور الكرام على ناظرها، فحسن بنائها وجمال حروفها وعمق معناها يسترعي الاهتمام ويترك أثرا يدوم لدى المشاهد. كل عمل بمثابة دعوة مزدوجة للتأمل، أولهما تأمل جمالي صِرفٌ، للحروف وتراصفِها في كلماتٍ وجُمل، وثانيهما تأمل معرفي بمعاني العبارات المخطوطة، سواء كانت أقوالا مأثورة أو آيات كريمة أو جملا شعرية.
تأتي أعمال الشعراني، نتيجة لتضافر «المعنى مع المبنى»، لأن أحدهما يغني الآخر. أناقة الخط ودقة صنعته تعطي للعبارة عمق معناها، والعكس صحيح، فالجملة تلهم الفنان اختيار الألوان وطبيعة الخط وطريقة تراكب الحروف. «العبارة هي الذريعة لإقامة البناء التشكيلي»، تماما كما أن الجسد شكل مصدر إلهام للرسامين والمصورين عبر العصور.
عبر 25 لوحة مختارة من أعمال أنجزها منير الشعراني خلال السنوات الثلاث الماضية، في مرسمه الدمشقي على سفح قاسيون. كان لجمهور الفن التشكيلي في باريس وقفة مع لوحات من القياس المتوسط، رسمت معظمها بألوان الغواش على الورق المقوى، وبعضها منفذ بتقنية الشاشة الحريرية، تعرضها صالة «أوروبيا» للفنون التشكيلية، في الدائرة السابعة من العاصمة الفرنسية. ويستمر المعرض حتى 15 من تشرين الأول/أكتوبر.
بين الأعمال المعروضة في الصالة تتألق لوحة «في الشام مرآة روحي»، التي اقتبست من قصيدة «وفي الشام شآم» للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش. العبارة الأساسية رسمت وسط اللوحة بالخط الكوفي النيسابوري، وتحيط بها قصائد في مديح الشام للشاعر السوري الراحل بدوي الجبل، كتبت بخط ديواني دقيق. تكوين اللوحة، والألوان المستخدمة فيها، وشاعرية الخطوط المطورة من قبل الشعراني، تجعل العمل وكأنه حوض من الورد وسط باحة منزل دمشقي.
عند سؤاله إن كان انتقى أعمال المعرض لتتوافق مع الذائقة الغربية، أجاب منير الشعراني: «أعمالي تتوجه للإنسان بشكل عام، تطرح أسئلة تمس جميع البشر. فيها دعوة للتفكير بالأبعاد المختلفة التي قد تنطوي عليها كل لوحة». عبارات مثل «الغنى عن الشيء لا به» أو «الأفعال أبلغ من الأقوال» تحمل بعدا إنسانيا عاما، غير مرتبط بمكان أو زمان. كما أن البحث المتواصل الذي دأب عليه الشعراني لتطوير الخط العربي، يقرّب عمله من روح العصر، ويسهل حتى على المتلقي الذي لا يفك الحروف العربية، أن يتماهى مع القيمة الجمالية للوحة. وأكبر دليل على أن الرسالة تصل إلى العرب والعجم على حد سواء، هي أن عدد مقتني أعماله من الأجانب يوازي عدد المقتنين العرب.
الاختزال هو السمة الأبرز في الفن الذي يقدمه الشعراني، فالخطوط تبتعد عن الزركشة، والألوان تقتصر على ثلاث أو أربع درجات، والحروف تتألف في ما بينها، من دون تعقيد. يقول الفنان «بدأت أشعر، أن الإكثار من الألوان ثرثرة لونية. أسعى للتقشف باللون والخامة المستخدمة، بعيدا عن البزخ والزخرفة. وألجأ لتأطير اللوحات بأبسط الطرق الممكنة، كي لا تشتت انتباه المتلقي عن العمل». فكل لوحة هي جرعة مكثفة من القيم الجمالية والفكرية، يزيد من وضوحها التضاد اللوني الحاد بين الخلفية والعبارة المخطوطة».
هاجس تأكيد الخط العربي كأحد الفنون التشكيلية رافق المسيرة الإبداعية لمنير الشعراني، في رغبة لتخطي الوظيفة القدسية التي ارتبطت به لعقود، بوصفه الأبجدية التي رسم بها القرآن، والتي حرمته من إمكانية التطور والتجدد. الشعراني عمل على مدى عقود، لاستنباط الخطوط القديمة المهملة التي تم تحييدها في الحقبة العثمانية، كالخط المغربي والكوفي المرتبط بمدنية نيسابور أو المرتبط بقيروان وغيرها. انتقى منها «ما ينسجم مع روح الحداثة»، ليطورها ويدرس خواصها الجمالية ويستخدمها في أعماله، فتخرج إبداعات متماشية مع العصر، لكن نَسبها يعود لخطوطٍ عربيةٍ رسمت قبل مئات السنين.
اختيار العبارات ليس أمرا نافلا، فكل جملة تعبر عن رؤية منير الشعراني للعالم، وفلسفته في الحياة. يختارها بعناية من الكتب السماوية أو دواوين الشعر أو أقوال المتصوفين والحكماء. ويضعها ضمن تراكيب واضحة، لكنها ليست دائما سهلة على القراءة. الفنان يؤكد أنه لا يتوخى التعقيد في تراكيبه ويضيف أن: «اللوحات التقليدية تخطّ آيات محفوظة عن ظهر قلب، أو حكما مشهورة، لذا فحسب المتلقي أن يتعرف على كلمتين من الجملة، ليكمل القراءة من ذهنه». معرفة العبارة في لوحات الشعراني تشكل بحد ذاتها متعة للمتلقي، تشبه غبطة الأطفال عندما يحزرون أحجية، لكنها هنا غبطة اكتشاف معنى جديد وعميق يريد الفنان إيصاله للمتلقي.
الثورة السورية كان لها نصيب من أعمال الشعراني خلال السنوات الخمس الماضية، وكان لتحولاتها انعكاس مباشر على مقولات أعماله. مع انطلاق الشرارة، كانت الأعمال تعلي من شأن الحرية وتؤكد عليها كقيمة أساسية، مثل لوحة «لا إبداع حيث لا حرية». من ثم، ظهرت لوحات «اللاءات» التي ندد فيها بالقمع والاعتقال، وحذر من الانزلاق إلى الطائفية والإرهاب. وصولا إلى أعمال أكثر شخصية، مثل لوحة «فَقد الاحبة غربة» التي رصدت تجربة الفنان الشعورية عند اعتقال صديق عزيز، لم يتمكن من معرفة مصيره.
خرج منير الشعراني بداية الثمانينيات من سوريا، وبقي منفيا نحو 25 عاما بسبب آرائه السياسية، خطّ تجربته الفنية في مصر، رافضا الحصول على اللجوء السياسي في أي بلد.
ليعود عام 2004 إلى دمشق ويتابع من دون كلل نشاطه الفني. اليوم بالعزيمة نفسها يصرّ على البقاء داخل بلده، من دون أن يمنعه ذلك من مواكبة معارضه التي تقام في بلدان عربية وأجنبية.

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى