مرآتنا الدمشقية في رواية الياس خوري

آية الأتاسي

الأدب هو توتر العلاقة بين الصمت والكلام. والصمت يلفنا منذ البداية ونحن نقرأ رواية «أولاد الغيتو» للروائي إلياس خوري، فالصمت هو البطل الخفي للحكاية أو للحكايتين: حكاية «وضاح اليمن»، الشاعر العاشق الذي مات صامتا ومكبلا بالحب في صندوق الموت، ولم يصرخ ليحمي حبيبته من الفضيحة والقتل.
وحكاية شعب هُجَر من أرضه ووضع من بقي في وطنه في قفص كبير، فعاش مرحلة ما بعد الألم ولم يجد وسيلة للعيش في هذا الحضيض غير الصمت، الصمت كموقف لا كانهزام.
حكاية «وضاح اليمن» كانت مشروع رواية داخل الرواية، أراد آدم أن يكتبها ولكنه انتهى إلى كتابة قصة حياته بعدما اكتشف عبثية وجوده، فكتب حكايته وكأنها وصيته وانتهت القصة بموته محترقا في شقته في نيويورك، في لحظة شبيهة بموت شاعره المفضل راشد حسين، ومن لحظة الموت تلك تبدأ رواية «أولا الغيتو».
آدم هو ابن النكبة الفلسطينية وابن منال، ولكنه قبل كل شيء ابن شجرة الزيتون، تحتها عثر عليه مأمون رضيعا مرمياَ على صدر أمه الميتة في مسيرة الهروب من الموت سنة 1948، فأخذه وعاد به إلى اللد وهناك تبنته الممرضة الشابة منال وجعلته ابنها…
لكن حقيقته تلك لم يعرفها آدم إلا متأخرا، وهو في العقد الخمسين من عمره، عندما يلتقي بمأمون الأعمى مصادفة في نيويورك وقد جاء إليها محاضرا عن فواصل الصمت في شعر محمود درويش، فيحكي له مأمون كيف عثر عليه تحت الشجرة وهنا يصاب آدم بصدمة تهز كيانه وتمزق روحه: «فجأة في نهاية العمر، أكتشف أنني لست أنا، وأن هذه الأنا التي أراها في مرايا الآخرين صارت شظايا».
هكذا يجد أدم نفسه أمام أناه المبعثرة، وهو الذي حاول طوال حياته أن يصنع مرآته ويلصق قطعها بعناية، مختلقا ظلا إسرائيليا لأناه الفلسطينية، وجاعلا من آدم، ابن غيتو اللد، مواطنا إسرائيليا قادما من غيتو وارسو. إنها الأنا وظلها إذن، أو المثنى كما عشقه آدم وكما صاغه معلمه الشاعر امرؤ القيس: «فهمت المثنى وعشقته، واكتشفت أن باب لغة العرب وشعرهم هو هذه العلاقة بين الأنا وظلها، التي صاغها سيد شعراء العربية، امرؤ القيس…». ولكن من هو آدم حقا؟
آدم: إنه رضيع الغيتو الأول، غيتو اللد الذي جمع فيه الإسرائيليون أهالي اللد بعد احتلالها وأحاطوهم بسياج شائك، وأطلقوا على المكان اسم الغيتو، تماما كما كان يطلق على أحياء اليهود في أوروبا، التي كانت تسمى «حارة اليهود» عند العرب…
وهكذا صار السكان الأصليون «الغائبون الحاضرون»، وصار آدم رمزا لكل الأطفال الذين ولدوا بعد النكبة أو معها: «أشعر وأنا أنسج ذاكرة الصمت من كلام أمي أن الرضيع الذي كنته لم يكن فردا، بل كان كل أطفال العالم، وأن الأطفال أصيبوا بالخرس، وأجبروا على العيش بصمت والموت بصمت».
آدم…ابن الغيتو ولكنه يتيم الأب رغم أن له ثلاثة آباء، خانوه جميعا بشكل ما: الأول هو الأب البيولوجي المجهول الذي تركه للموت فوق صدر أمه الميتة. الثاني هو الشهيد حسن دنون، زوج منال، الذي مات قبل أن يولد ولم يرث منه سوى عبء الاسم وثقل البطولة. الثالث هو مأمون الأعمى، الذي التقطه من على صدر أمه الميتة وسلمه إلى منال، ثم تركه وهو في السابعة ومضى إلى مصر لدراسة الأدب. آدم لم يكن معنياُ بعقدة أوديب وقتل الأب، بل كانت العقدة التوأم هاجسه، أي عقدة إبراهيم وقتل الأب لابنه والتضحية به: «الآن أكتشف أن آبائي الثلاثة أرادوا قتلي رمزيا، وكان عليَّ قتلهم كي أدافع عن وجودي». وكأن «أبناء الغيتو» لا آباء لهم، أو أنهم ببساطة أعلنوا القطيعة مع جيل آبائهم.

أدم في مواجهة الروائي:

وآدم في الرواية هو الراوي أيضا وعلى لسانه ومن خلاله نكتشف الحكاية، التي كتبها كي ينساها محاولا التخلص من هول الذاكرة. لكنه يكتشف في النهاية أننا «لا ننسى حين ننسى، أو ننسى حين لا ننسى»، وليكتشف أنه لم يكتب إلا سعيا نحو موته، وأنه كلما تذكر أكثر اقترب من موته أكثر. صحيح أن آدم ينتهي محترقا ويترك روايته أو سيرته الشخصية في دفاتر خاصة ويوصي صديقته الكورية «سارانغ لي» بأن تحرقها بعد موته، لكن هنا تحدث المفارقة الذكية في الرواية «فسارانغ لي» لا تتلف الأوراق، ولأنها لا تقرأ العربية تقوم بتسليمها إلى أستاذها اللبناني في الجامعة الأمريكية، الروائي إلياس خوري نفسه، الذي يقوم فيما بعد بنشرها من دون أي تعديل وكأنه وجد أخيرا ما كان يحلم به:

الجزء الثاني من رواية «باب الشمس»…

وهنا تحضر «باب الشمس» عبر شخصية خليل أيوب، الذي يظهر كشخصية حقيقية يلتقي بها آدم في رام الله، من دون أن نتأكد حقا إن كان ما يدعيه آدم حقيقة أو مجرد وهم، ونجد أنفسنا أمام سؤال مشروع: هل يمكننا حقا التعامل مع خيال الكاتب بصفته حقيقة، وأين يبدأ الخيال وأين ينتهي؟ لطالما أعرب إلياس خوري في أغلب تصريحاته الصحافية عن سعادته عندما ينساه القراء ويتذكرون أبطاله، وكأنه يقول أنجح حقا كروائي عندما يعتقد القارئ أن شخصيات روايتي الخيالية هي شخصيات حقيقية من لحم ودم بإمكانهم مصادقتها أو عشقها، بل يذهب خوري أبعد من هذا في «أولاد الغيتو»، عندما يظهر الروائي إلياس خوري نفسه كشخصية روائية إشكالية، لا يحبها آدم، بل لا يحب الروائيين بشكل عام ويتهمهم بأنهم بصّاصون: «الكتاب يستطيعون أن يكونوا أكثر الكائنات وحشية، ففي ادعائهم أنهم يكشفون الشرط الإنساني، فهم يتحولون إلى بصّاصين يتلذذون بما يتخيلون ويصفون».
لاحقا في الرواية تحتدم المواجهة بين آدم وإلياس خوري بعد عرض الفيلم السينمائي «نظرات متقاطعة»، حيث يكون إلياس خوري ضيفا فيه، ويتهمه آدم بالكذب وبأنه لا يحق له كلبناني الكتابة عن فلسطين فهو لا يعرف عما يتحدث. أما هو «ابن شجرة الزيتون»، فهو يعرف الحكاية لأنه عاشها من دون أن يدعي البطولة، بل على العكس من هذا هو يرفض أن يكون رمزا أو بطلا: «أنا لست بطلا… وأكره الأبطال».
«أداري عجزي عن البطولة بتأليف الحكايات». «أنا مجرد كاتب للإطار وسأكون مجرد راوٍ». هنا أيضا لا يخرج إلياس خوري عما كان وفيا له دوما، أي الكتابة عن الأشخاص المهمشين في الحياة وتحويلهم إلى أبطال في رواياته، فهؤلاء هم الأقرب لحقيقة المجتمع وجوهر الحياة وهم الأقرب لروح المثقف والكاتب الحقيقي.
كما أن هناك ظهورا مستترا آخر لإلياس خوري في الرواية، عبر تاريخ سقوط اللد وهو تاريخ ميلاده، وكأنه منذور منذ ولادته ليكون مع فلسطين وليكتب عنها ومعها، وهو موعد ووعد لم يخلفه الكاتب يوما. تاريخ سقوط اللد يذكره الكاتب بدقة، فهذه حقيقة لا تحتمل اللبس أو الخيال، أما حكاية السقوط فيخصص لها فصلا كاملا يسميه «الحضيض» يمتزج فيه السرد الروائي بالوقائع التاريخية، ثم تأتي يوميات السكان في الغيتو وضياعهم فيه، التي يفرد لها سبعة فصول يسميها المتاهة، ومن جديد تتفرع المتاهة السابعة عن سبعة مشاهد، يرويها آدم على لسان مراد العلمي الذي كان جزءا من المجموعات التي شكلها الإسرائيليون، للم جثث القتلى ونهب البيوت في اللد… هو الرقم سبعة إذن بكل رمزيته وقدسيته، الذي يحيلنا إلى العالم الذي خلقه الله في سبعة أيام وأخيرا الغيتو ومتاهاته السبع.

آدم في مواجهة المؤرخ:

بعد مواجهة آدم مع الروائيين تأتي مواجهته مع المؤرخين عبر شخصية «حنا جريس»، الأستاذ الجامعي والمؤرخ، الذي يلتقي آدم باحثا عن حكاية جده مع الكتائب التركية البلشفية الحمراء، ثم يعاود الظهور لآدم في الحلم ساخرا منه ومن محاولته الكتابة، ومدعيا أن التاريخ لا يكتب إلا موثقا.. وهنا يضعنا الروائي أمام سؤال محق آخر، هل نترك الحكاية للوثائق والتاريخ؟ ألم يكن التاريخ دائما ملكا للمنتصرين، وماذا يمتلك المهزوم غير حكايته ليرويها، حتى لا يموت وتموت من بعده الحكاية.
«جاء الأدب كي يصنع للضحية لغتها الجديدة، أي كي يعلن أدب الصمت».
الطريف في الأمر أن الرواية نفسها تدخل أحيانا في التوثيق والسرد الدقيق للوقائع، فتصبح في أماكن معينة أقرب للوثيقة منها للرواية، وتدخلنا كقراء في نوع من الملل، وكأن الرواية هنا تشبه الحياة في متعتها ومللها، مما يجعلها مفتوحة على كل الاحتمالات.
آليات الكتابة الروائية الحديثة يكشفها آدم لنا في سياق الرواية نفسها، فمــــا يكتبه عن حـــكايات الغيتو هو ما سمعه من أمه منال ومن مأمون الأعمى وما تبقى من ثقوب في الحكاية يملأه من ذاكرات الآخرين ويمزجه بالخيال، بحيث تخـــــتلط الحقيقة بالخيال والسيرة الذاتية بالــــرواية… وهكذا تتوالد القصص بلا نسق، كما الذاكرة متخبطة وعشوائية، فما يكتبه آدم هو في النهاية تجميع لذاكرته وذاكرات الآخرين من خلاله.

الحب:

تبقى أجمل مقاطع الرواية هي قصص الحب التي تمر فيها كالظلال الوارفة:
حب دالية وآدم:
الحب في نهايته، أو عندما يشعر المحب بالخوف من نهاية الحب، فيهرب قبل أن يهرب الحب من قلبه…هكذا استحم آدم وأحس أن حبه لدالية تلاشى مع الماء والصابون بعد أن تلاشت هي ودخلت في أزمتها النفسية.

حب منال ومأمون:

الحب في إعاقته… منال المرآة الجميلة كالصمت، التي عاشت حياتها كلها فيما بعد البكاء، وكان لصوتها صدى يصير كلاما على لسان مأمون الأعمى. مأمون الذي كان صوته أيضا صدى للألم، وكان الأعمى والمبصر الوحيد للمذبحة، التي تحتاج إلى أعمى كي يراها.

حب خلود وإيليا بطشون:

بداية الحب في أواخر الحياة، خلود المرأة الصبية التي أعادت الشيخ المسن إلى الحياة، وجعلت يداه تتوقفان عن الارتجاف عندما يلمسانها. وليمت بعدها وهو في ذروة الحب. «وحده الموت يشبه الحب في القدرة على تقصير الزمن، والإيحاء بأنه لا يمضي حين يمضي».

أولاد الغيتو من منظور سوري:

في النهاية لا نهاية للرواية، فللحكاية بقية في أجزائها المقبلة، قيد الكتابة…
ولكن مشهدا أخيرا في الرواية شدني كسورية: مشهد المرآة الدمشقية الأثرية القديمة والجميع يقف في مواجهتها، بمن فيهم الشاب الفلسطيني الذي تعود ملكية المرآة لوالده، يأمر الضابط الإسرائيلي مجموعة النهب بتحميل المرآة في الشاحنة، والمجموعة ماهي إلا شباب الغيتو الذين جمعهم الجيش الإسرائيلي لمساعدته في تفريغ بيوت اللد من أثاثها بعدما ُفرغت من سكانها، بمعنى آخر نهب الضحية للضحية… أمام المرآة يرفض الشاب الانصياع، فهنا بيته ومرآته، وفي المرآة رأى نفسه والإسرائيلي وراءه ورأى نفسه تسرق نفسه.
يتمسك الشاب بالمرآة وينهال عليه الضابط الإسرائيلي بالضرب، فتسقط المرآة بصورتهم جميعا فيها ويتناثر الزجاج مضرجا بالدماء، وكأنه صراع على الصورة وأحقية صاحب المرآة والأرض بملكيتهم. لا أدري لماذا استوقفتني قصة المرآة؟ هل لكونها دمشقية أم لأننا نعيش اليوم كسوريين حالة مشابهة ولكن باحتلال محلي وبيوتنا تُسرق وتَنهب على أيدي جيش، من المفترض أن يحمي بيوتنا لا أن ينهبها…
ربما لأننا في حاجة لأن ننظر عميقا في مرآتنا، قبل أن تتكسر المرآة وتبتلعنا الدماء…
وفي صمتنا السوري اليوم شيء شبيه بصمت الفلسطينيين، هو صمت الضحية وصمت ما بعد الألم. ونحن أبناء لغيتو اسمه الاستبداد والديكتاتورية اعتقلنا دهراَ فيه.
لا يزال طريقنا نحو الحرية طويلا ولكننا مثل الفلسطينيين مازلنا نحمل مفاتيح بيوتنا في قلوبنا وطريق بيوتنا نحفظه في مكان دفين في ذاكرتنا. وما زلنا أيضا كسوريين في انتظار أن يكتب الروائي الكبير إلياس خوري، صديق الثورة السورية، روايته السورية عنا.

 

(القدس العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى