التلفزيون .. سيد الحنين

أسماء الغول

عندما سُئل الزعيم البولندي البارز ” ليش واليسا” عن أسباب انهيار الأنظمة الشيوعية في دول شرق أوروبا والاتحاد السوفييتي قال: “إن كل ما حدث بدأ من التلفزيون”.

إن المسألة التي انتبهت إليها في هذا الاقتباس الشهير ليس الإشارة إلى التحريض السياسي الذي مارسته الشاشة والتي كانت حديثة وقتها، بل كيف يتم تناول هذه الآلة كأنها وسيلة تاريخية يشار إليها من الماضي.

وربما جميعنا نحمل هذا الشعور أن التلفاز جهاز كلاسيكي، زائداً عن الحاجة خاصة مع تعاظم سطوة وسائل التواصل الاجتماعي، إنه يشبه أن تقرأ خبرا في جريدة مطبوعة صبيحة اليوم التالي.

وهذا كان شعوري أيضا؛ بأن التلفزيون قد مات أوانه، لكني اكتشفت أنه النوستالجيا كلها.

حين وصلت إلى فرنسا قبل ثلاثة أشهر مع أطفالي، كان كل ما نبحث عنه هو الوطن في جميع التفاصيل؛ الأكل والأصدقاء، والعادات، وعلى رأسها ما كان يترك صدى الأجواء المنزلية هناك؛ إنها الشاشة الصغيرة التي تذكرك بجلسة والدتك منتظرة المسلسل التركي، ووالدك الذي لا يملّ من حضور فيلم الأكشن ذاته، فينادي علينا كل مرة “تعالوا يا أولاد..في فيلم حلو”.. أو شقيقك الذي يعبث في كل المتاح من الأسلاك المخفية والظاهرة كي يجد قناة أرضية تبث المباراة بعد أن قامت الفضائيات بتشفير المباريات الحية، إن التلفزيون بطقوسه ومسلسلاته سيد الحنين في الغربة.
وهذا الحنين لا يعني أبدا أن التلفزيون في الوطن كما في الغربة؛ فلا يزال مكررا، وصعبا على التصديق، وحربا مستمرة على الريموت كونترول، ومن يصل إلى الكنبة الرئيسية أولاً، طبعا حُلت الأزمة لاحقاً بشاشتيّ بلازما صغيرتين.

وهذه الشاشات الصغيرة الخفيفة، لا تزال قادرة على حشد مجموعة من البشر أمامها فمهما تغير شكلها تبقى تلفزيوناً، لذلك لا أستغرب إذا سمعت صوت شباب الحارة في غرفة شقيقي يتشاجرون على توقعات الفوز!

في حين أن شاشات الحاسوب والهواتف الذكية لا تشجع أبدا على المشاركة، في الأصل لم تصعد هذه الأجهزة من أجواء الجماهير كالمسرح والسينما بل هي قائمة على العزلة الفردية التي تشجعها؛ خاصية الاختيار، وسرعة الوصول وضيق الشاشة.

هذه المشاركة التي يفرضها التلفزيون، تكتشف عمقها في الغربة، وأنها احتلّت جزءً مهماً من ذاكرتك، فلا تدري إذا ما كان التلفزيون كوّن تلك الذكريات عبر طقوسه، أم أن الذكريات صاحبت التلفزيون صدفة ؟!

إن برامجه ومسلسلاته تمثل فترات معينة من حياتك؛ فتنهال عليك الذكريات إذا ما صادف ورأيت أو سمعت هذه البرامج مرة أخرى، إنها تشبه الروائح التي تأخذك إلى أماكن من الماضي..

فمثلاً حين أسمع مصادفة تتر مسلسل “أهلا بالسكان” الذي يحكي عن المواطن الغلبان عصفور أفندي، أقف متجمدة، تلفحني ذكريات منزل جدي في الثمانينات والانتفاضة الأولى وخيالاتي حينها عن السفر والأماكن الجديدة.

يكفي مسلسل “هو وهي” وما فعلته سعاد حسني وأحمد زكي بطفولتي لقد حولّا المخيم الذي أعيش به جنوب القطاع، إلى أجمل ساحة رقص وغناء في ذاكرتي.

بعدها انتقلنا إلى الإمارات بسبب عمل والدي، خلال التسعينات، وتحول الفيديو إلى شغف عائلي، فكنا نسجل الأغاني من القنوات التلفزيونية، لنحضرها مرارا وتكرارا، والآن تعيد لي هذه الأغاني بمجرد سماعها؛ “سكة العاشقين” لمصطفى قمر.. و”مرة صدفة” لعايدة أيوب وغيرها.. كل ذكريات المراهقة الأخاذة ومشاعر الحب الطفولية.

أبحث هنا بلهفة عن العائلة والوطن، لكنك تكتشف أن جهاز التلفزيون وحده لا يكفي، بل يجب أن يكون مع القنوات نفسها، فمجرد أن يصدح صوت مسلسل مصري مهما كان ضحلاً.. يُسكت بعضاً من هذا الحنين المرضي إلى روح الماضي.

والحقيقة أنني لم أجد ما أبحث عنه، ولو وجدته ما كتبت هذا المقال، لأن التلفزيون الفرنسي أصعب تجربة قد تعيشها في حياتك _ مع احترامي لكل فرنسي بالغربة يشتاق إلى هذه القنوات _ ليس فقط لأنك لا تعرف شيئا من اللغة، بل هم لا يتركون لبقية اللغات حريتها لأن كل شيء مدبلج إلى الفرنسية، لا تسمع أي لغة أخرى، وهذا الكسل الذي تعود عليه المُشاهد هنا، سبب رئيسي أنك إذا تهت في فرنسا وسألت بالانجليزية فلن تجد من يرد عليك، وستبقى تائها حتى تتحدث الفرنسية.

إنها حوالي 35 قناة فرنسية مجبر عليها، طالما لم تأت بالصحن اللاقط أو اشتركت بالقنوات الرقمية، وهذا ما لم أفعله بعد، بل أبحث عن القنوات العربية عبر الإنترنت، وبالمناسبة هذا لا أسميه تلفزيوناً بل طقس تنكري لخداع الذات.

أما بقية ما يعرضه التلفزيون الفرنسي غير المدبلج من البرامج والأفلام الأمريكية، فهي برامج الواقع الفرنسية التي يوجد عنها النسخة العربية والانجليزية والهندية والروسية؛ كبرامج الطبخ وتغيير المظهر فهم أيضا لديهم جويل، وبرامج تحسين ديكورات المنزل، وبالطبع هناك برامج التوك شو السياسية.

يبدو أن تلفزيونات العالم اتفقت على الاستعراض والسطحية والادعاء، كما يبدو أنها لن تتسبب يوما بانهيار منظومة كالاتحاد السوفيتي، لأن أهمية التلفزيون أصبحت من الماضي أيضا، وليس فقط عمره.

(الجزيرة الوثائقية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى