بطرس المعرّي .. أو «دكانة» أبو ماتيس

محمد شرف

يقول بطرس المعرّي إنه سأل صديقه اللبناني، المقيم في مدينة هامبورغ بألمانيا، كيف يسمّي اللبنانيون المحل الذي يبيع أشياء مختلفة، والذي ندعوه في وقتنا الحالي «ميني ماركت»، فأجابه: دكّان. وحين أراد استنطاقه حول ما يتعلّق بحجم ومساحة المكان المذكور، أجابه: إذا كانت مساحة الدكان صغيرة، يقولون: دكّانة. وإذ أطلق الفنان هذه التسمية على معرضه، فقد كان يستجيب لرغبة ذاتية منذ البداية، بمعزل عن إجابة الصديق اللبناني، وهكذا اختار كلمة «الدكّانة» عنواناً لمعرضه الحالي، المقام لدى غاليري «تجليات»، لكون هذه التسمية ألطف وأقرب إلى القلب.
التسمية ليست بغريبة عنّا وعن ذاكرتنا، ولو أن كلمة «دكان» كانت قد أُدخلت إلى ميدان السياسة قسراً، فتمّ تحريف مدلولاتها البسيطة المعروفة، لتُلحق بأساليب السياسة وفذلكاتها التي تُفسد الأشياء والمعاني. على أن ما بقي في ذاكرة بطرس المعرّي هو ذاك المكان الحقيقي الواقع في بلدته صيدنايا، حيث قامت دكانة أبي الخير، التي شكّلت واحداً من أوائل الأمكنة الباقية في ذاكرته. وكما هي حال دكاكين البلدات الصغيرة، فقد كانت الدكانة المذكورة تحتوي على بضائع قليلة، لكنها كانت كافية لإثارة دهشة الأولاد، ممن أدّت زياراتهم للمكان إلى سرور طفولي، ولّده شراء «نعّومة» أو قطعة بسكويت مع راحة، أو «سحبة» قد تكون في داخلها مفاجأة غير منتظرة، لم تكن أكثر من لعبة صغيرة، لكن وقعها على الشاري المتلهّف قد يكون كبيراً.
غياهب الذاكرة
هكذا وُلد أحد المحرّكات الأساسية للمعرض الذي نحن في صدده، علماً أن هذا المعرض يضم، أيضاً، أعمالاً أخرى كثيرة قد لا تكون ذات علاقة وثيقة بالتسمية، لكنها تندرج ضمن الجو العام المميّز لسوريا، بلد الفنان، ولو أن الأعمال المعروضة لا تتطرّق حكماً إلى الواقع المأساوي الحالي الذي نعرفه جميعاً. لقد شاء المعرّي أن يغوص في غياهب الذاكرة المرتبطة بالناس والأمكنة، ويسرد جملة من الخواطر بحسب لغته التشكيلية الخاصة، عبر مفردات تحاول أن تتغلّب على «برودة الصالات» التي لحظتها إحدى صديقاته خلال حوار قام بينها وبين الفنان. ولعلّ المعرّي يدرك تماماً أنه لن يجترح معجزات في محاولته هذه، الآيلة إلى محاربة الملل، لكننا، كما لحظنا خلال تجوالنا بين الأعمال المعروضة، أن الفنان تعامل بصدق ظاهر مع المنتج الذي صنعه. هذا الصدق لا يطاول بالضرورة المفعول أو البعد الواقعي للوحة، بقدر سعي الصانع إلى التمسك برؤاه الفنية المتراوحة بين العفوية حيناً، والسعي إلى إنتاج لوحة مكتملة العناصر أحياناً أخرى. وإذا كانت العفوية من مميزات الأعمال الصغيرة السريعة، فإن الأعمال الأخرى، الأكبر حجماً والمنفّذة بتقنية الأكريليك، تنزع إلى عملية بناء للمتن بحسب أسس مختلفة تراعي التوازن الشامل في العمل ومتطاباته التأليفية.
وإذا كانت البورتريهات المعروضة، التي يحوي بعضها وجوهاً أنثوية ذات عيون مغمضة، أو مجموعة من الإناث كـ «الأميرات الدمشقيات الثلاث»، تكتفي بالوجه كعنصر أساسي يشي بتشابه الشخصيات المرسومة ضمن فصول مناخية مختلفة، فإن أعمالاً أخرى تتعدد عناصرها بحسب نسق يراعي المساحات الفارغة، الفاصلة ما بين هذه العناصر. وكأن المعرّي ـ (أو أبو ماتيس، كما يطلق على نفسه أحيانا، إذ يحمل ابنه البكر اسم الفنان الفرنسي) – شاء أن يضمّن لوحته موتيفات عديدة، تنتظم عبر علاقات عضوية، وإن كان العمل يجمع ما بين الأشياء والبشر، في حين أن هذه الأشياء لا تخرج عن إطار الاستعمال البشري، اليومي أو الموسمي. وإذا كانت بعض هذه الأعمال، من ناحية أخرى، تقترب من تمثيل الحدث الواقعي، ولو في شكل نسبي، فإن أعمالاً أخرى تطمح إلى خلق أجواء غريبة (في المعنى الإيجابي للغرابة) يختلط فيها الواقع بالمتخيّل. هذا الأمر يتمّ، في أحيان عديدة، على خلفية داكنة، وكأن المعرّي تقصّد أن تكتسب لوحاته بعداً بصرياً لائقاً، لا يحدد الفكرة فحسب، بل يدفع بها إلى المقدمة من أجل إبرازها، والتشديد على أهميتها.

(السفير)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى